تقارير

من يرفع عنها الحجاب؟! : مذكرات القادة السودانيين.. أوراق في مهب الريح!!

  يقوم  كثير من  القادة والحكام  بكتابة مذكراتهم الشخصية، وتعتبر هذه الأوراق الخاصة وثيقةً غايةً في الأهمية، فكُتب السيرة الشخصية الخاصة بالسياسيين عادة ما تتناول شهادات حيّة لشخص كان في قمة المسؤولية، أو لعب دوراً مهماً في التاريخ السياسي لبلده، شاهدا أو مشاركاً في مختلف القضايا والأحداث التي عايشها يوماً بيوم، كما أن المذكرات تقوم بكشف بعض الأسرار والقضايا التي لم يتسن الكشف عنها في حينها؛ لأسباب مختلفة تتعلق أحياناً بفترة وجود هذا الشخص في الحكم حينئذ، كذلك تعتبر وثيقة تاريخية مهمة تسهم في كتابة التاريخ من زاوية أكثر وضوحاً، هذا إذا ما اتسم قلم  السياسي أو القائد أو الزعيم بالصدق والتجرد والبعد عن الغرض والهوى.
(1)
 وكتابة السير الذاتية – بحسب تعريف الدكتور “خالد غازي” الكاتب بصحيفة (الشبيبة) العمانية – أنه جنس أدبي غربي، بدأ تحديداً مع القديس “سانت أوغسطين” الذي تحدث فيها عن تأثير الدين في حياته الخاصة، ثم تبلورت وأخذت في التطور كفنٍّ أدبي قائم بذاته مع “جان جاك روسو”، الذي يعتبر أهم من كتب  السيرة الذاتية عبر كتابه الشهير (اعترافات)، وقد استهله بجملة صارخة قال فيها: (أنا أفعل
شيئاً لم يفعله شخص قبلي، ولن يقدر شخص بعدي على تقليده).
بعد أن ظلت السيرة الذاتية حكراً على الأدباء والفلاسفة تلقفها بعد ذلك الملوك والسياسيون والرؤساء. ويقول الباحث العراقي “حسين علي الحمداني” إن المتابع لحركة التاريخ ومصادره في الوطن العربي سيجد نفسه يفتقد حلقة مهمة جداً، وهي (المذكرات السياسية للزعماء) هذه المذكرات التي لم يكتبها أحد، ولم يفكر في كتابتها أي زعيم عربي لأسباب عديدة، أولها أنه يتمنى أن ينتقل من كرسي الحكم مباشرة لقبره، فتدفن معه أسرار حقبته بإيجابياتها وسلبياتها. الشيء الثاني، وهو الأهم في عدم كتابة هؤلاء الزعماء مذكراتهم، ويتمثل بأنها لا تحتوي على ما يمكن الإشارة إليه أو ما يمكن أن نسميه حركة تاريخية بمعناها الأكاديمي، بقدر ما هي يوميات بوليسية، ومشاهد من مطاردات الخصوم والتنكيل بهم، وبالتالي فهي أسرار لا يرفع، الحجاب عنها.

(2)
 في السودان لم يعهد الساسة السودانيون ايلاءهم كبير اهتمام بكتابة مذكراتهم الشخصية، سواء أكانوا على قيد الحياة أو التوصية بكتابتها بعد انتقالهم إلى الدار الآخرة، وباستثناء كتابات شحيحة، أبرزها ما كتبه الراحل “محمد أحمد محجوب”، وأخرى لـ”الشريف حسين الهندي” و”أمين التوم” وبعض ما كتبه الإمام “الصادق المهدي” والدكتور “منصور خالد” و”فرانسيس دينق”، ظلت الساحة خالية، وقلم الساسة يكتب باستثناء ما يخطه ذلك القلم عن السياسي السوداني في مذكرات كاملة يمكن أن تشكل وثيقة مهمة للأجيال المعاصرة، أو تلك التي تأتي من بعده.
(3)
ويرى نجل الزعيم الإسلامي الدكتور “حسن الترابي” “عصام الترابي” أن أدب وثقافة كتابة المذكرات يعتبر أمراً حضارياً، درج كثير من الناس في العالم من ذوي التأثير، الذين تهم تجاربهم الآخرين، درج هؤلاء على كتابة مذكراتهم؛ كيما يشهدوا على التاريخ من منطلق شخصي، فهذا الأمر يصبح مهماً في المستقبل، بالتأكيد فإن أي إنسان يعيش في هذا الكوكب تستحق حياته الدراسة وليتم الاعتبار منها، وبالنسبة للشخصيات العامة من سياسيين ومفكرين، فهؤلاء أحرى بكتابة مذكراتهم، ولكن بالنسبة للسودان، فإن كتابة   السياسي لمذكراته الشخصية ثقافة غير سائدة. ويرجع “عصام” السبب لعدم نيل السودان في عموم الأمر قسطاً كبيراً من الحضارة، وهذا أمر لابد أن نعترف به. ويضيف: أساليبنا في الشهادة عن ذواتنا والآخرين غير متحضرة.. على سبيل المثال، فأنت تجد أن من كتب عن سيرة الدكتور “حسن الترابي” اثنين من اليساريين. لقد كتب الدكتور “خالد المبارك” من منطلق كراهيته لدكتور “حسن”، وفي سبيل ذلك قام بتزوير الحقائق. ويدلف “عصام” إلى الموضوع بشكل أكثر تحديداً بالقول هنالك أشخاص لا يهتمون بذواتهم، وقصد بذلك والده وغيره من الساسة. وأضاف: هؤلاء يفترض أن يقوم بدور كتابة مذكراتهم آخرون، والسيئ – كما يقول – أن هذه الشخصيات مشغولة بالأمور المهمة، لكن عدم كتابتهم لمذكراتهم الشخصية لايعد بأي حال من الأحوال تقصيراً منهم. هنالك أمر آخر، وهو أن النظرة إلى الشخص الذي يكتب مذكراته دائماً ما تكون نظرة غير سليمة، كيف سيتلقى الآخرون مذكرات السياسي الشخصية، وهو غير مطلوب منه فعل ذلك، أنا لا أستطيع بهذه المناسبة أن ألوم الإمام”محمد أحمد المهدي” على عدم كتابته لمذكراته، وبالنسبة لشيخ “حسن” فأعتقد غير مناسب أن يقوم بكتابة مذكراته، إنما يفترض أن يقوم بهذه المهمة من هم حوله، سبق أن حاول آخرون السير في هذا الاتجاه، حاول البعض كتابة (سيناريو) عن “شيخ حسن” وإخراج فيلم وثائقي عنه. وبالفعل قام المخرج “سيف الدين حسن” بتصوير مسقط رأس الدكتور في كسلا، وتم تصوير منزل والده القاضي الشرعي، ومدرسة حنتوب، وما إلى ذلك، وبالأخير أقول لو كان دكتور “الترابي” في أوروبا لانصرف لكتابة مذكراته ورعاية أسرته وممارسة دوره الاجتماعي. فبيئتنا هنا لا تترك للإنسان أن يفعل ما يريد، وبالنسبة لشخصيات مهمة مثل “حسن البنا” و”حسن الترابي” حياتهم مليئة بالأحداث، فإن كتابة مذكراتهم الشخصية يعتبر أمراً مهماً، ولكن يفترض أن يقوم بذلك أشخاص آخرون، وبرأيي الخاص أعتقد ووفقاً للتطور التكنولوجي الكبير الآن تتم هذه المذكرات عبر التوثيق الفيلمي أو التلفازي، بحيث يتم أخذ الحديث مباشرة.
(4)
  وتتفق  دكتورة “مريم الصادق المهدي” مع ما ذهب إليه “عصام الترابي”، حيث اعتبرت أن المشكلة في عدم كتابة الساسة السودانيين لمذكراتهم الشخصية، إنما الأمر يعود لطبيعة الثقافة السودانية نفسها، فهنالك بالفعل من قام بالكتابة. فالسيد “الصادق المهدي” كتب عن حياته، وغيره، إلا أنها ترجع، وتقول: أوافقك الرأي أن الساسة السودانيين لم يكتبوا مذكراتهم الشخصية مقارنة مع نظرائهم في الدول العربية. فالسبب يعود بالأساس لطبيعة الثقافة السودانية التي لا تحبذ أن يتحدث الشخص عن نفسه، وهنالك مشكلة أخرى وفقاً لهذه الثقافة، فأنت حينما تكتب عن نفسك بايجابية تكون (شكرت روحك) وصرت (إبليس)، وإذا ما كتبت بشكل سلبي عن نفسك “كشفت حالك”، وبالتالي نحن ثقافتنا عموماً لا تحبذ أن يتحدث الشخص عن نفسه، وهنا تكمن الصعوبة، فأنا على سبيل المثال طرحت على منظمة أجنبية مهتمة بالنساء السياسيات في العالم أن تنشر لي إن كانت لدي كتابات، وأنا كنت مصرة على تجربتي السياسية خلال (10) سنوات، فأنا أكملت في نوفمبر (2010) الماضي عقداً من العمل السياسي  المتفرغ، وعلى قصر هذه المدة كنت أريد كتابتها، وذلك لتتعرف نساء أخريات على تجربتي المكتوبة باللغة العربية  ووجدت أنني من المستحيل أن أتحدث، لذلك لم أذهب في المشروع كثيراً لأنه لا وقت لديّ، إلا أن “مريم” ترجع، وتقول: (سأتحدث باللغة الانجليزية حتى أقدم تجربتي لـ”الخواجات” كامرأة مسلمة)، وتعود إلى التخوفات مرة أخرى بقولها: يحرم الإحجام عن كتابة المذكرات الخاصة والحديث الخاص وصفه بأنه (كشف حال)، تحرمنا هذه النظرة من الخبرة التراكمية، فتجد أن أي شخص يبدأ تجربته السياسية (من الصفر)، هنالك أمر آخر تتطرق إليه، حيث تصف طريقة كتابة السياسي الموضوعية عن التاريخ بأنها بين مزدوجتين، وتقول إن التاريخ نفسه مُحيت منه أدوار النساء.
(5)
آخر الراحلين من السياسيين السودانيين الكبار، كان السكرتير العام للحزب الشيوعي السوداني الأستاذ “محمد إبراهيم نقد”، وللرجل تجربة سياسية عميقة، وكان شاهداً على التاريخ، كما أن فترة اختفائه تحت الأرض أتاحت له وقتاً ثميناً ليقوم بالتدوين وكتابة تجربته الخاصة، هذا دون أن نتأكد إن كان دون تجربته السياسية الكبيرة أم لا، سألت شقيقته “فائزة نقد” عن هذا الأمر، فقالت: (أنا بصدد استخراج ما كتبه “نقد” وبالفعل بدأت باستخراج قصاصات من ما دونه طوال فترتي الاختفاء في مايو والإنقاذ وغيرها). وتعود إلى التذكير بأن ما دونه “نقد” ربما لا يرقى إلى أن تكون مذكرات بالمعنى الكامل، لكنها تعمل الآن على جمعها كلها، وتقديمها إلى الناس؛ لأنها ملك لهم. فالرجل – كما تقول – كان مشغولاً بالهم العام، وبالنسبة للمرحلة التاريخية المهمة التي اختفى فيها، وما صاحبها من محاولات لتصفية الحزب الشيوعي وقيادته. فـ”نقد” لعب دوراً كبيراً في إعادة تنظيم وترتيب وكتب كتابه (الديمقراطية مفتاح الحل جبهة عريضة لإنقاذ وطني)، وتضيف “فائزة” نحن كأسرة أحرص ما نكون على نشر ما كتبه الرجل على أكبر نطاق. فهذه من مسؤوليتنا، وبالتأكيد يوجد تراث هو ليس ملكاً لنا بل ملك لكل السودان، وبالتالي لابد أن ينشر على نطاق واسع، وحتى كتبه المنشورة سنعيد طباعتها في مناسبة تأبينه القادمة، كما أننا سنجمع ما كتبه في الصحف السيارة.
(6)
وفي السياق يقول د. “صفوت صبحي فانوس” أستاذ العلوم السياسية في حديثه عدم كتابة الساسة السودانيين لمذكراتهم أن جزءاً من مكونات الثقافة السودانية أنها ثقافة شفاهية، فالشخصية السودانية تفضل نقل الأحداث وتسجيلها شفاهة وليس تسجيلاً. ويضيف: أنا أقول إن هذا سببه الخلفية البدوية والريفية للشعب السوداني، وأيضاً يعود الأمر لمسألة أخرى متعلقة بعملية الطباعة نفسها، فالسياسي السوداني تجده يفكر في تكلفة الطباعة والناشر الذي يتحمل التكلفة المالية، ولكن بالتأكيد توجد استثناءات بالنسبة لساسة السودان. فهنالك – كما يقول “فانوس” – شخصيات سودانية عالمية وغير تقليدية مثل الدكتور “منصور خالد” و”فرانسيس دينق”.. هؤلاء ساسة سودانيون غير تقليديين عملوا بالخارج واكتسبوا تجارب. عموماً، فإن عدم كتابة الساسة السودانيين ألخصها لك في عاملين، الأول: هو الخلفية الثقافية، والعامل الثاني يتعلق بمسائل سهولة النشر والتوزيع وخلافه، لم يكتب “الصادق المهدي” سيرته الذاتية، بقدر ما كتب عن قضايا فقهية. السياسيون السودانيون يأتون عادة من عقليات وخلفيات تقليدية، هذا مع ملاحظة أن الطبقة المثقفة لها اسهاماتها مثل الراحل “محمد أحمد محجوب” برأيي أن الاحتكاك بالعالم الغربي أو الحداثة له تأثير مهم، ويمكنك ملاحظة أهمية كتابة المذكرات السياسية في ما تحويه كتب التاريخ. فجزء كبير منها يعتمد على السيرة الذاتية أو كتابات لأشخاص تقلدوا مناصب سياسية أو إدارية، خذ السودان -على سبيل المثال – ستجد أن أهم المراجع التاريخية في اللغتين العربية والانجليزية، لفترة الاستعمار كتبها “نعوم شقير” و”سلاطين باشا”، وكذلك مذكرات “بابكر بدري”، وأول أمس حملت صحيفة “الأهرام” المصرية خبراً مهماً للغاية، حيث كشفت ابنة الرئيس الراحل “جمال عبد الناصر” الدكتورة “هدى” أن والدها ترك آلاف الوثائق المهمة في كل الأحداث التي مرت بها مصر في عهده، ولم يتيسر للرئيس “جمال” الوقت أو العمر لنشرها، وهنا في السودان تعتبر فترة اختفاء “محمد إبراهيم نقد” الطويلة فرصة له للكتابة. وبالتأكيد أنه كان يكتب يومياً، والسبب أن هؤلاء الناس كانوا واعين بدورهم كقادة وزعماء سياسيين، وهنا لديه الإحساس بالتاريخ.
ويضيف (فانوس): أنا متأكد بأن أسرة “نقد” لديها كتابات بخط يده، ولكن لم يكن لديه الوقت ليقوم بالانجاز حتى نهاية الشوط.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية