تقارير

تفاصيل معارك لها دوي في قمة جبل مرة

رحلة في تخوم دارفور (1)
هذه أسباب مغادرة “خليل عبد الله” الجنينة وفرص نجاح الهجا!!
تعثر طريق الإنقاذ الغربي بين الفاشر ونيالا الأسباب والحلول
جبل مرة -يوسف عبد المنان
ثلاثة أيام رحلة قصيرة بمعيار الأرض الواسعة والقضايا الشائكة في إقليم مثل دارفور تموج فيه قضايا السياسة والأمن والاقتصاد والصراعات القبلية.. ولكن التحولات العميقة التي يشهدها الإقليم تجعل من الطواف على الأرض والتقصي حول مشكلاته بمثابة ضخ الأكسجين في جسد الصحافي الباحث عن الحقيقة في مظانها، وثلاثة أيام أتاحتها ولاية وسط دارفور ولجنة إسناد جبل مرة التي يشرف عليها نائب رئيس الجمهورية “حسبو محمد عبد الرحمن” للصحافة السودانية من خلال رحلة نظمها الاتحاد العام للصحافيين الذي أخذ في الفترة الأخيرة يؤدي دوره الذي ظل بعيداً عنه في الفترة الماضية بتنظيم أنشطة لخدمة المهنة والصحافيين بعيداً عن التكالب على الأسفار الخارجية والمغانم الذاتية.. هي رحلة بدأت بغرب دارفور وانتهت بجنوب دارفور.. ما بين السير براً لمسافات طويلة بين الجنينة في أقصى الغرب إلى نيالا في وسط الإقليم تكشفت حقائق الواقع الذي يعيشه إقليم دارفور أو ولايات دارفور كما هو بعيداً عن تهويل الأزمة في الإعلام الدولي وتجميل الصورة في الإعلام الرسمي.
إنها رحلة قد تغيب عن الصحافي بعض الحقائق.. ولكن تبقى المشاهدة البصرية.. والإفادات الشعبية المباشرة.. وحديث الناس العاديين في الأسواق والقرى والفرقان شهادة لصالح أو لغير صالح ما يجري في دارفور لا يمكن التقليل من قيمتها.. فإلى تفاصيل رحلة الأيام الثلاثة.
دار أندوكا تغسل وجهها!!
رغم إنها تعتبر مدينة بعيدة جداً عن العاصمة الخرطوم، بل هي عاصمة الولاية الوحيدة التي تبعد عن حدود دولة مجاورة بـ(18) كلم فقط.. ولكن ما بين (الجنينة ودار أندوكا) والخرطوم عموم ساعتين إلا عشر دقائق بالطائرة البوينج التي تهبط في مطار الشهيد صبيرة في التاسعة صباح كل يوم ويقرأ أهل الجنينة صحف الخرطوم قبل الحصاحيصا والكاملين والقطينة.. لكن الرحلة بالسيارات تمتد ليومين بسبب طريق الإنقاذ الغربي الذي تعثر في قطاع نيالا الفاشر.. وكاس زالنجي بسبب الأوضاع الأمنية وتوقف دفع المال من جهة المركز.. وتدني كفاءة الشركات التي منحت تنفيذ هذه القطاعات.. وتلك قصة نعود إليها في حينها.. إلا أن الطائرة البوينج الحديثة لشركة بدر قدمت وجهاً مغايراً لشركة بدر التي وجهنا لها النقد قبل أسبوعين.. نصف ركاب الطائرة عابرين لدولة تشاد يتحدثون ثلاث لغات، العربية والفرنسية ولهجة محلية أم البرقو أو الزغاوة أو القرعان، والنصف الآخر من الركاب أما عابرين لزالنجي التي أصبحت المسافة بينها والجنينة بفضل الشارع الأسفلتي ساعة ونصف الساعة بعد أن كانت (6) ساعات من المشقة والرهق لعبور وادي كجا ثم وادي باري ووادي أزوم والجسور الثلاثة التي تعتبر من أطول الجسور في البلاد بعد النيل الأبيض، تم استيرادها بمال طريق الإنقاذ الغربي الذي ثارت حوله الشكوك السياسية ودفنت كثير من أسرار الطريق تحت تراب قطاع زالنجي الجنينة وقطاع الأبيض النهود. وحينما اكتمل الطريق حتى الفاشر لم تحتفل به الحكومة حتى اليوم، مع أن الطريق يمثل أكبر مشروع للإنقاذ في كل غرب السودان ولكن!!.
هبطنا في التاسعة والنصف صباح الجمعة والجنينة تنهض متأخرة وتنام مبكراً، كانت صحبة الرحلة يقودها “الصادق الرزيقي” و”إمام محمد إمام” والأستاذ “محمد الفاتح” والدكتور “خالد التيجاني النور” و”بكري المدني” و”محمد عبد القادر” هؤلاء رؤساء تحرير الصحف السياسية إلى جانب الكاتب والمؤلف “محمد الشيخ” و”الطاهر ساتي”، جاء لاستقبال الوفد الصحافي الوالي “فضل المولى الهجا” وهو لا يزال حديث عهد بالولاية.. خلفاً للدكتور “خليل عبد الله” الذي غادر الجنينة كثاني والي يفقد مقعده بعد بقرار مفاجئ بعد “محمد حامد البلة” في نهر النيل.. وإذا كانت مراكز القوى وصراعات أبناء نهر النيل قد أطاحت بـ”ود البلة” فإن أسباب إعفاء “خليل عبد الله” كانت من صنعه هو وأبواق الإعلام التي صدق ما تقوله حينما طالبته بضرب الإدارة الأهلية بيد من حديد.. وخسر “خليل عبد الله” المساليت قبل القبائل العربية وأضطر الوالي “الهجا” لإيقاف سيل الاتهامات الغليظة التي وجهها الأمير “مسار” زعيم القبائل العربية للوالي المقال، ولكن أهم ما ذكره الأمير “مسار” إن “خليل عبد الله” قد يصلح لإدارة شركة في الخرطوم، ولكنه غير صالح لإدارة ولاية مثل غرب دارفور.. حينما أغلق “خليل” أبواب منزله وشكك في ذمة أبناء غرب دارفور المالية.. وفقد الثقة فيهم.. ووضع أئمة المساجد في السجون ولم يصغ لنصائح الأقربين.. كان قرار إقالته هو الحل، وجاء بـ”الهجا” من ذات ولاية سنار، ولكنه دخل قلوب الناس سريعاً، فتح أبواب منزله وقلبه للناس باشاً باسماً يحترم الصغير قبل الكبير، فأحبه الناس من أول نظرة ويبقى سلوكه العملي وقدرته على تقديم ما ينفع أهل دار أندوكا التي تشكوا من ضعف التيار الكهربائي.. وتطلق الصرخات في وجه المستثمرين الوطنيين لإقامة مصانع الطحنية والشعيرية لتغطية احتياجات الولاية، ودولتي تشاد وأفريقيا الوسطى.. حيث عجزت الولاية حتى اليوم من إقامة مصنع لإنتاج الصلصة، بينما إنتاج الولاية من الطماطم يغطي حاجة السودان ودول الجوار.. لكن الصراع القبلي الذي فشلت الحكومات المتعاقبة في تقريب شقة الخلاف والنزاع والمطامع بين العرب والمساليت.. وهو الذي يغذي التمرد بالوجود والرجال.. ويساهم التمرد بقدر في إزكاء روح القبلية في غرب دارفور.. وخلال العام الماضي تجددت في غرب دارفور صراعات العرب والمساليت في كل من مليّ والتي تمثل منطقة نزاع تاريخي.. دامي ومخزي بين العرب الأبالة والمساليت.. وجاءت أحداث (أزرني) التي قتل فيها المواطنين الركع السجود.. وإذا كانت تلك الأحداث تكشف عن هوة عميقة وسط المجتمع، فإن زعماء المساليت والقبائل العربية يتبادلون الابتسامات في الجنينة.. ويأكلون ويشربون من مائدة السلطة وينكرون وجود خلاف بينهما.. ويعتبرون ما يحدث (تفلتات) من فئات معزولة إلا أن التبرير الفطير لا يغني عن حقائق الواقع التي هي في حاجة لقرارات وأفعال حقيقية لإنهاء النزاع، وقد ذكر الوالي “فضل المولى الهجا” في حديثه للصحافيين إن المصالحات القبلية تشكل بنداً مهماً في برنامج حكومته التي لم يعلن عنها بعد، إلا أن وجود زعماء المساليت بالقرب من الوالي ووجود قيادات القبائل العربية في مجلسه المسائي يفتح الباب لتشريح الداء ووصف الدواء وشفاء الجنينة من أمراضها القديمة.

الصعود لجبل مرة
الرحلة من الجنينة لجبل مرة تمر من خلال عاصمة الفور التاريخية مدينة زالنجي التي خرج من رحمها أغلب قادة هذا الإقليم في كل الحقب التاريخية ما بعد الاستقلال، حيث أنجبت زالنجي آل “السيسي” من الراحل “فضل سيس” إلى “التيجاني” و”فاروق”.. وأنجبت “الشرتاي جعفر عبد الحكم إسحق” الذي يرسم الآن خطى النجاح وهو يتكئ على إرث قبلي.. وقبول مجتمعي إلى قادة أغلب المتمردين من زالنجي “عبد الشافع” و”عبد الواحد محمد نور” و”أبو القاسم إمام” والشيوعي (الفقيه) “صالح محمود” وشقيقه الشعبي والأمين “محمود” وحسبو محمد عبد الرحمن” الذي ولد في مناطق الضعين، ولكنه درس ونشأ طفولته في بلدة جلدو الواقعة على خد جبل مرة الأيسر.. وهناك تعلم لغة الفور وعاداتهم وتقاليدهم ونشأ بينهم حتى الصبا.. لذلك تجده قريباً إلى وجدان الفور، وغير بعيد من الرزيقات.. في زالنجي التي يفصلها الوادي العتيق.. وتطل من بعيد جبال (السحرة) و(الكجرة) من الشمال الغربي.. بدأت زالنجي هذه المرة نظيفة الثياب.. وقد عرفت شوارعها الأسفلت لأول مرة منذ عام 1956م، وشيدت قاعة بأمانة الحكومة القديمة، ولكن في شرق زالنجي تبدوا (مقرات) الحكومة تحت التشييد معلماً بارزاً في خصر المدينة العجوز.. ولا يزال السكان ينتظرون قيام المطار الذي تقول السلطة الإقليمية المنتهية ولايتها أمس، إن أموال المطار في خزائنها.. وإن الشركة التابعة للقوات المسلحة قد وعددت بتسليم المطار في غضون ستة أشهر، إلا أن الشهور الستة انقضت ولا يزال المطار (واقف) و(ما زاد) وبراميل الإسفلت غطاها العشب الأخضر.. ولكن مطار الجنينة الحالي يغطي حاجة سكان زالنجي إلى حين اكتمال مطار المدينة الذي قد يحقق أهداف الصادر لمنتجات جبل مرة شريان حياة وسط دارفور.. ولكن جبل مرة ظل مرتعاً خصباً لحركة تحرير السودان بقيادة “عبد الواحد محمد نور” حتى بدأت عمليات الصيف الماضي التي كشفت مصادر مطلعة في ولاية وسط دارفور عن جزء من تفاصيل العمليات الجسورة التي قامت بها القوات المسلحة وقوات حرس الحدود وقوات الدعم السريع التي أصبحت تشكل رعباً في قلوب المتمردين حينما يذكر قوات الدعم السريع أو اللواء “حميدتي”، يهرول التمرد جزعاً خوفاً من مصير حركة العدل والمساواة في قوز دنقو.. إلا أن العمليات العسكرية التي خاضتها القوات المسلحة في جبل مرة الصيف الماضي من العمليات التاريخية التي تسجل لقواتنا المسلحة نظراً لتعقيدات مسرح المواجهة والحصون التي يتمرسون خلفها والطبيعة التي تقاتل إلى صف التمرد.. الذي سيطر على مداخل ومنافذ جبل مرة.. ولكن القوات المسلحة اتخذت ثلاثة مسارات رئيسة انطلقت من شمال شرق الجبل نحو مناطق (فنقا) الواقعة جنوب قرية تابت.. وهذا المحور مهم جداً وحققت القوات المسلحة نجاحاً كبيراً بالسيطرة على (فنقا) ثم المحور الثاني شرق الجبل من الملم وطور في الجنوب نحو القمة.. لكن المحور الرئيس هي القوات التي زحفت من زالنجي .. نحو (سرونق) رئاسة قوات “عبد الواحد محمد نور” التي تقع على ارتفاع (2) ألف وخمسمائة قدم فوق سطح البحر.. وتحيط بها الجبال الشاهقة مثل جبل تربيذة.. وكلمني.. وأورنق.. وقطعت القوات المتجهة نحو سرونق المسافة التي لا تتجاوز المائة كيلو متر في ستة أشهر زحفاً على الأقدام ومقاومة شرسة وهجوم لا يعرف التراجع.. دفن الشهداء في أرض الجبل من قولو حتى سورنق التي فاضت فيها روح الشهيد العقيد “إبراهيم الشريف” الذي تعرضت عربته لنصب كمين أصيب فيه الشهيد “إبراهيم” وفاضت روحه الطاهرة، لكن قواته من فرسان حرس الحدود الذين يمثلون قوة ضارية على الأرض استطاعت الوصول لسرونق والسيطرة على القمم الجبلية المحيطة بها.. من خلال عمليات صامتة في الليل البهيم حينما تسللت عناصر العمليات الخاصة إلى مخابئ المتمردين وباغتتهم وهم يغطون في نوم عميق، وتم طرد المتمرد (طرادة) وانكسرت شوكة “عبد الواحد محمد نور” واندثرت حركته.. وقد شاهدت (المجهر) أثار المعارك.. والذخائر المتساقطة والسيارات المحترقة ولافتتات المنظمات الدولية التي تسللت في غفلة من الحكومة لتلك المنطقة ولا تزال حتى اليوم المقاومة من قبل المتمرد مستمرة.. ويهاجمون نقاط المراقبة التي نصبتها القوات المسلحة في أعالي جبل لمرة.. لكنهم يتعرضون في كل هجوم لخسائر فادحة جداً في الأرواح.. ويوم وصول الوفد إلى قولو.. وفي الطريق إلى سرونق هاجمت عناصر التمرد دفاعات القوات المسلحة في الساعات الأولى من الصباح بالهجوم على ثلاث نقاط رئيسة لكنهم خسروا أكثر من (20) قتيلاً، بينما أصيب جندي وحيد بجراح نقل على أثره لمستشفى زالنجي.. وشكل عودة النازحين ومشروع إعمار جبل مرة حافزاً إضافياً لتقاتل قواتنا المسلحة من أجل استقرار المنطقة التي تعتبر المورد الأول لإنتاج البرتقال والليمون والمانجو وتقدر عدد الشاحنات التي تتوجه من الجبل للأسواق يومياً بمائة شاحنة كبيرة كانت حركة “عبد الواحد” تفرض رسوماً على الشاحنات وقيود على حركة المواطنين.
{ طريق الإنقاذ وطريق عد الفرسان
لن تتعافى دارفور وتدخل الإنتاج الاقتصادي وتعود لاقتصاد البلاد عافيته في ظل العزلة التي تعاني منها مناطق إنتاج البرتقال وجميع الموالح والبطاطس حول جبل مرة.. ومناخ البحر الأبيض المتوسط في قمته العليا وقد أصبح طريق الإنقاذ نيالا كاس زالنجي.. عبارة عن منحنيات وأخاديد عميقة على الأرض.. وتوقفت شركة صادق للطرق والجسور عن الأعمال في طريق نيالا الفاشر الذي لم يتجاوز حجم الإنجاز فيه الـ(37%) بعد أن نزع من شركة شريان الشمال ومنح لشركة صديق ودعة من قبل السلطة الإقليمية، وفشلت وزارة المالية في الوفاء باستحقاقات الدفع الشهري وتعثر العمل في الطريق.. وفي الجهة الأخرى فإن طريق نيالا عد الفرسان رهيد البردي الذي تنفذه شركة مان لصاحبها “وليد الفايت” قد بلغ حجم إنجازها (57%) ولا تزال المالية الاتحادية عاجزة عن الدفع حتى الشهر الماضي حينما حصلت الشرطة على ضمانات من بنك فيصل الإسلامي بالحصول على ما تدفعه الشركة للإنشاءات على الأرض، وقال “الوليد الفايت” في حديث خاص لـ(المجهر): إن الأسبوع القادم رغم أن شركة (مان) فقدت (12) عربة تم نهبها من قبل المتمردين في السنوات الماضية وقدمت (6) شهداء، إلا أن العزيمة باقية والإصرار على تقديم الطريق الذي يشكل أهمية اقتصادية قصوى لصادر الثروة الحيوانية هدية لأهل دارفور بعد (6) أشهر من الآن وتشييد ثلاثة جسور عملاقة في أم دافوق ورهيد البردي.. وعد الفرسان.. وقد دخلت شركة (الجنيد) للطرق والجسور معمعة طريق الإنقاذ الغربي الذي في حال تعثره وعدم اكتمال قطاع نيالا الفاشر وزالنجي نيالا فإن أزمة دارفور تبقى شاخصة ويصعب الحديث عن حلها.. ونواصل.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية