بعد.. ومسافة
تكريمٌ نفخرُ به ونسعدُ
مسطفى أبو العزائم
غادرنا الخرطوم صباح الأمس إلى مدينة “الأبيض” حاضرة شمال كردفان، ووصلنا إليها بعد خمس وثلاثين دقيقة من الطيران المريح على متن طائرة “نوفا” .. رافقني في الرحلة أخي الأكرم الأستاذ “ميرغني أبو شنب” الصحفي الكبير الرقم، والذي جمعتني به زمالة المهنة منذ عقود عندما بدأت عملي الصحفي بجريدة (الأيام) الغراء أول ثمانينات القرن الماضي، ثم حب الهلال آنذاك، كما تشرفت برفقة الأستاذ “حسن حمد” الشاب الذي يمتلئ نشاطاً وحيوية ويملك مخزوناً هائلاً من الأفكار المنتجة المقترنة بالفعل المتميز. ورحلتنا تلك جاءت تلبية لدعوة كريمة من الدكتور “يوسف السماني حسين” رئيس مجلس الإدارة المدير العام للإذاعة الرياضية (إف إم 104) التي تحتفل بعشريتها الأولى هذه الأيام من مدينة الأبيض التي حفظت للإذاعة الرياضية مبادراتها العديدة في الشأن الرياضي والوطني والتي لم تنقطع طوال عقد من الزمان. وقد رأت الإذاعة الرياضية أن تكرم عدداً من الرموز في مجالات الفنون والإبداع والصحافة والإعلام والرياضة جعلتنا – أكرم الله مديرها والعاملين بها – من بين ذلك النفر المُكرّم وسيتم التكريم بحضور ومشاركة وتشريف السيد والي ولاية شمال كردفان مولانا “أحمد محمد هارون” وعدد من أعضاء حكومته مساء اليوم على مرحلتين، الأولى في إستاد الأبيض والثانية في مسرح عروس الرمال الذي شهد تحديثاً في المبنى والبنيات تكاد تجعله منافساً لأحدث المسارح في محيطنا القاري والإقليمي .
صباح وصولنا إلى مطار الأبيض تشرَّفتُ بوجود الأخ الكريم والصديق القديم الدكتور “خالد الشيخ” وزير الثقافة والإعلام بولاية شمال كردفان، في طليعة مستقبلينا إلى جانب عدد من الزملاء في مختلف المواقع ذات الصلة بالعمل الصحفي والإعلامي والثقافي والرياضي، لكننا مع ذلك لم نبرح المطار فور وصولنا فقد علمنا بأن السيد الوالي في طريقه إلى المطار، إذ أنه بصدد السفر إلى عاصمة ولاية جنوب كردفان للمشاركة في احتفالاتها بمناسبة ختام مهرجان التسوق والسياحة والاستثمار الأول الذي انطلقت فعالياته مطلع أغسطس الجاري، ودشن انطلاقته تلك وخاطبه السيد النائب الأول لرئيس الجمهورية الفريق أول ركن “بكري حسن صالح”، كما خاطبه السيد اللواء الدكتور “عيسى آدم أبكر” والي ولاية جنوب كردفان الذي أكد وأركان حكومته في كادوقلي وبقية أنحاء الولاية الشاسعة الواسعة، على أن السلام أصبح واقعاً معاشاً على الأرض .
التقينا بالسيد الوالي مولانا “أحمد هارون” قبيل مغادرته إلى كادوقلي وتبادلنا الحديث السريع حول القضايا العامة على أمل اللقاء مساء اليوم التالي (اليوم) في حفل التكريم، والذي أكد لنا على أن المواطن السوداني ينظر ويحكم ويحاسب ويكافئ كل من قدم عملاً نافعاً لأهله ووطنه وللناس جميعاً أو كما قال الدكتور “يوسف السماني”، الذي أكد في ذات الوقت على أن للتكريم في ولاية شمال كردفان مغزىً آخر هو تفاعل أهل هذه الولاية مع الأحداث والوقائع في كل القطر وانفعالها بكل ما يحدث في مختلف المجالات، ثم المغزى الثاني وهو أن ولاية شمال كردفان، إنما هي السودان المصغّر من حيث المكونات البشرية والاجتماعية والثقافية.
جلسنا على الأرائك في أحدث فنادق المدينة نتبادل الحديث ومعنا زميلنا الأستاذ “عثمان الخليفة” أقدم مراسل صحفي الآن في مدينة الأبيض وهو من المكرمين أيضاً في عيد الإذاعة الرياضية العاشر. وقال لي الدكتور “خالد الشيخ”، إن أهل الأبيض هم من أكثر أهل السودان احتفاءً بالإبداع والفنون والقصيد والغناء، وأن مدينتهم حفلت بوجود كثير من المبدعين في فترات سابقة، إما من أبنائها أو من الذين وفدوا إليها فاحتضنتهم وأصبحوا جزءاً منها وأصبحت جزءاً منهم من أمثال الشعراء الكبار “حميدة أبو عُشر” و”سيد عبد العزيز” و”حدباي” و”علي المساح” و”محمد عوض الكريم القرشي”، إلى جانب مبدعين آخرين كان من بينهم الموسيقار “برعي محمد دفع الله” وسياسيين كبار ومؤرخين وأدباء وصحفيين ومطربين كبار . قلت للدكتور “خالد الشيخ” وهو نموذج للمثقف السوداني الموسوعي المعارف، قلت له إن مدينة الأبيض هي أقرب المدن شبهاً بأم درمان من حيث المكون الاجتماعي الذي أدى إلى التصاهر والانصهار الذي أدى إلى تكوين الشخصية السودانية الحديثة. ابتسم الرجل وقال لي إن تكوين الأبيض سبق تكوين أم درمان، فقد ظلت الأبيض تحت حكم الإمام “المهدي” منذ العام 1883م بعد أن حاصرتها جيوش الإمام “المهدي” ثم أسقطتها وخضعت لحكم الإمام “المهدي” منذ ذلك التاريخ، ومنها انطلق إلى أم درمان التي حاصرها ليتم بعد ذلك فتح الخرطوم في السادس والعشرين من يناير 1885م .
صدق صديقنا الدكتور “خالد الشيخ” الدارس والباحث والمثقف الموسوعي وصدقت الوقائع التاريخية، فقد بقي الإمام “محمد أحمد المهدي” في الأبيض أكثر مما بقي في أم درمان، وبدأت رحلة الانصهار هنا في الأبيض التي نحتفل معها اليوم وهي تؤكد على أنها عاصمة منفتحة تقبل كل أبناء الوطن وتحتضنهم على اعتبار أنهم أبناؤها .. وهذا شرف عظيم لنا ولكل من تمتد له يد التكريم فهي منا ونحن منها .