أخبار

خربشات (الجمعة)

جلس كعادته بالقرب من دكان الحي الوحيد الذي يرتاده طالب الفول واللبن والطعمية في الأمسيات، وصوت المولد بنادي المشاهدة يثير صخباً وضجيجاً يمتزج مع أصوات معلقي المباريات المسائية في الحي الذي لا تقدم إليه الحكومة خدمات الكهرباء والمياه ولا الطرق ولا تعترف به كحي سكني، بل يتم تصنيفه كبؤرة إجرام منه ينتشر المجرمون في المساء بالأحياء السكنية بحثاً عن الهواتف الذكية والمال والذهب.. لكن حي (ظلمونا) كما يطلق عليه قاطنوه يحظى باعتراف من الحكومة وأحزابها مرة واحدة كل خمس سنوات، حينما تجوب الحي سيارات اللاندكروزر التي يمتطيها الرجال الذين تنشر  شركات الاتصالات صورهم في دعاياتها في الطرقات.. وموسم الانتخابات يشهد دائماً اعتراف الحكومة والأحزاب بأمونة بائعة الطعمية واعتبارها مواطنة لها حقوق وإن حرمت من حق الكهرباء، وحق التعليم وحق الصحة والسكن الذي يليق بالإنسان فهي تملك حق التصويت.. وأيام الانتخابات تتوقف حملات الكشة وتعسف السلطات المحلية بمصادرة أواني بائعات أي شيء.. حتى “كلتوم” بائعة الخمور البلدية في موسم الانتخابات تستريح قليلاً من عناء الحراسات والسجن ومداهمات الشرطة، لأن القانون في هذه البلاد تعبير عن حالة.. تصفو وتعكر.. و”عمر كافي” في جلسته متأملاً زرقة السماء وتناثر النجيمات.. والليل في أطراف أم درمان حالم جداً.. والنوم في فناء الحوش يعيد لأؤلئك النازحين الذين قذفت بهم الحروب التي ليست حربهم.. إلى أتون المدن المتوحشة، ويعاودهم الحنين للعودة مرة أخرى لكنهم يتذكرون مآسي وجراحات في النفوس لن تندمل.. “عمر كافي” يعتبر من سكان الأحياء ومن الناس (القيافة) حرمتهم الأنوار الساطعة من رؤية جمال نجوم الليل التي تشهد بأنوارها الخافتة على السهر والسهاد.
تمر أطياف من الذكريات الموجعة.. كيف قتل صديقه “منصور” وبكته الفتيات بألم وحرقة وتمزقت أحشاؤهن من فرط إعجابهن بذلك الفتى الذي يمارس رياضة المصارعة.. ويرقص مع أنغام ربابة المورو ذات الأوتار الشجية.. وتمر صورة “فاطنة” التي أصيبت في مقتبل العمر بالجنون وفقدان العقل لأنها لم تبالِ بنصائح جدها بالابتعاد ليلاً من شجر (السرح) الذي تقطنه الأرواح الشريرة، وأن لا تقترب أيضاً في المساء من بيوت النمل التي تتخذها الشياطين مخابئ لها.. “فاطنة” المجنونة حينما هاجم الثوار القرية صرخت بصوت عالٍ.. لم تعد إلى حيث تجمع الأهالي بعيداً عن القرية إلا بعد يومين وقد تعرضت للاغتصاب.. وفيما بعد حملت جنيناً في أحشائها.. حينما تفيق من لحظات لوعيها تقول ليتني عرفت من هو أب الطفل الذي في أحشائي؟؟
فاق من تأملاته.. وأخرج من جيب البنطال سيجارة من النوع زهيد الثمن أشعلها بلهفة.. وضعها بين أصابعه ونظر إليها ودوائر الدخان تتسرب بعيداً عنه.. رن صوت الهاتف الذي يحمله.. كانت صورتها.. فتاة أحلامه التي دون كل فتيات الحي العشوائي.. لا تستخدم المساحيق الجمالية.. حافظت على لون بشرتها السمراء.. وعيونها العسلية وشعرها (القرقدي)، قبل أن يستغرق في حديث هامس مع من يحبه القلب.. شق صمت المكان صوت الفنان “عثمان حسين” المنبعث من كارو “حسين ود الدود” وهو يصرخ بصوت عالٍ اللبن (خلاص ماشين وبقينا مارقين) و”عثمان حسين” يصدح
خلاص اتجمعوا القلبين
خلاص اتوحدوا الأملين
وأصبحنا رغم البين
روح واحدة في جسدين
مهما تقولوا ظلمني
ومهما تقولوا هجرني
لو باع حبي وخدعني ما بصدقكم
دا حبيب الروح بالروح
(2)
بدأت “سمية” حاسمة هذه المرة.. طال الارتباط بيني وبينك و(الزمن ماشي) وأنت تجلس الساعات الطوال في المساء تنتظر أن تمطر السماء ذهباً.. تمني نفسك بسقوط النظام واستقرار البلاد.. وعودة الطمأنينة للأهل في (بلدنا الأصلية) وهذه الأمنيات الحالمة لا تبني بيت حلال، هل فكر يوماً في الهجرة لأوروبا أو إسرائيل التي درسنا في الابتدائية والثانوية إنها عدو العرب الأول.. ونحن لسنا بعرب.. وقالوا لنا إن المهمة المقدسة تحرير القدس ونحن عاجزون عن تحرير (بلدنا) من المتمردين الذين سيطروا عليها.. لماذا تبقى هنا يا “عمر”.. والشباب الآن في استراليا.. ويجني المهاجرون عبر البحر والصحراء من حصاد العنب في إيطاليا ملايين الجنيهات.. وبعض  الشباب يعملون في مزارع تربية (الخنزير).
قاطعها معليش يا “سمية” جابت ليها تربية (خنازير) معقولة!!
أنت يا “عمر” قايل الخنزير دا شنو ما الكدروك الواحد دا.. أبوك الله يرحمه كان عندو أكثر من مائة كدروك في قريتنا تبانيا.. وتم بيعها للخواجة الذي كان يدير مشروع التنمية الريفية في أم سردبة.. فكر في كلامي جيداً.. السودان بلد بلا مستقبل الحرب لن تتوقف.. والسلام لن يتأتى وأهلنا الآن في معسكرين مع الحكومة مثلي ومثلك ولكنهم مواطنون بلا حقوق.. وأما أن يذهبوا لمناطق الحركة الثورية حيث الجوع والاضطهاد.. وغياب القانون وسلطة الغاب والعمل دون مقابل وتجنيد الأطفال والفتيات.. لماذا يا “سمية” اليوم تبدو غير “سمية” التي يهفو قلبي لسماع صوتها العزب وحديثها الذي يتغلغل في دواخلي ويصنع الفرح.
لقد انتظرت طويلاً تعثرت دراستي في الجامعة بسبب الرسوم الدراسية.. وأصبحت بائعة شاي في سوق كرور أقرأ في لحظات خلوتي لـ”عبد الرحمن منيف” ومدن الملح التي صنعها بخياله الخصيب.. وأمضي النهار ما بين فضول الشباب وعشق الكهول وما بين الإغراء بالمال والإغراء بالزواج.. أنا انتظرك لإيماني العميق بأنك تستحق أن نضحي من أجلك.. لقد تعلمت من دروس في رواية (الرجل الخراب) أن المستحيل ممكن.. ومن يسلك دروب الهجرة يبلغ مقاصده.
(3)
تأمل “عمر” في زرقة السماء.. وأصوات النساء يتشاجرن وأزواجهن لأسباب تبدأ بمطلوبات البيت ولا تنتهي عند (الصناديق) والشباب الحائر يجلس في الطرقات، بعضهم يدخنون البنقو سراً وبعيداً عن عيون أهل الحي وآخرون يلعبون الورق و(الدمينو) وهم مولعون بكرة القدم الأوروبية، أكثرهم يشجعون برشلونة لأسباب طبقية لأن الفريق الآخر هو ريال مدريد الفريق الملكي الذي نشأ في أحضان الأرستقراطية الاسبانية وهو فريق الملوك والنبلاء وعلية القوم، بينما برشلونة هو فريق الكادحين الطامحين في الاستقلال عن المملكة الاسبانية. بحث “عمر” منذ الصباح عن وكالات السفر قبل التفكير في الحصول على جواز السفر الإلكتروني.. بعد أيام من الترقب والانتظار.. حمل حقيبته المهترئة.. وحرص على شراء كمية كبيرة من التمباك.. نصحه خبراء الصحراء بشراء ثلاث جركانات ماء، في جنح الظلام كانت السيارة اللاندكروزر تتجاوز تفتيش فتاشة غرب أم درمان ثم تنحرف قليلاً نحو الشمال لتسلك  الشارع الإسفلتي المؤدي لدنقلا.. حتى إذا تسللت خيوط الفجر كانت السيارة قد توغلت في الأرض اليباب صحراء بلا ماء ولا شجر ولا حجر.. تأمل “عمر” قدرة الخالق وتباين المناخات بين السافنا الغنية والصحراء الجافة.. ثلاثة أيام من السير في دروب الصحراء.. حتى تماهت ألوان الشباب السبعة والارتريات الأربع.. أصبح “عمر” بعد دخوله ليبيا رقماً أحادياً تم اختيار الرقم (7) أصبح هو اسمه.. حينما ينادي المنادي سبعة ينهض “عمر” ثم وضعه في حوش كبير ببلدة (زرقة) شمال طرابلس حصل على غرفة صغيرة يشاركه فيها رواندي وجنوب سوداني ومصري تبدو عليه علامات الجنون.. يغلق باب الجابلون الكبير في المساء.. حيث تسود ثقافة العنف. سبعة أيام والوجبات البائسة مكرونة وعدس وقليل من (المرقة) وثلاث قطع خبز.. في الساعة الثانية بعد منتصف الليل.. اتخذ “عمر” لنفسه مقعداً في القارب وهي المرة الأولى في حياته يركب صعاب البحر ويمضي إلى المجهول.. يحدوه الأمل في العودة بالشنطة والمال لزواج فتاة كانت سبباً في رحلة داخل أعماق البحر الأبيض من أجل بلوغ أرض النجاة من الفقر والعوز  والاضطهاد وهضم الحقوق.. وفي عمق البحر كانت لحظة سجل فيها التاريخ كلمته. ونواصل (الجمعة) القادمة وفي رمضان يحلو السمر.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية