السوق الإفرنجي : وجه الخرطوم الأوروبي يغيب وسط الزحام
مثل السوق الإفرنجي وجه الخرطوم (الراقي) إلى وقت طويل، وشهد أوج ازدهاره حتى ما بعد منتصف السبعينيات، وظل هذا السوق ذو الطابع (الإفرنجي) واجهة حداثية للسودان ربطته بالعالم، حيث كانت (الماركات) العالمية الشهيرة تأتي من الموانئ البعيدة، ويتسوق منه الأجانب والسودانيون على السواء، الأجانب هم من صنع السوق الإفرنجي ورعوا شتلته التي ظلت ترمي بثمارها زمناً، من “مخبز بابا كوستا، محال المسرة، مليون صنف، أستوديو النيل”، إلى “مقهى أتني” وغيرها من المعالم الشهيرة، أما اليوم فإن عوامل كثيرة دخلت لتغير من طبيعة الأشياء، وبنية العمل التجاري..
حملت كاميرتي وقلمي وقمت بجولة على محال السوق الإفرنجي بغية معرفة التغييرات التي يمر بها الآن هذا المكان الذي كانت تأتيه الصفوة والأجانب و(الناس المرطبة)، ويبدو وفقاً لمن التقيتهم أن الحال لم يعد كالسابق، وما زالت التغييرات تجري على الأرض.
سألت “عبد الله عصام محمدين” صاحب محل “مكس فاشون” للملابس عن المتغيرات التي طرأت على السوق، فقال: (زمان كان السوق الإفرنجي يعدّ وسط البلد)، وهذا التعريف الجغرافي كما يقول موجود في عدة دول، حيث يعدّ سوقاً معروفاً يشتمل على كل شيء، ويعدّ أحد معالم البلد البارزة والحضارية، ويمكنك أن تلمح ذلك في ألمانيا أو مصر، في القاهرة ما زالت محال مثل “جروبي” مكاناً يتم المحافظة على معالمه حتى الآن على الرغم من مرور سنوات طويلة على إنشائه.
ويمضي “عبد الله” في طرح رؤيته بالقول: السوق الإفرنجي بات اليوم بدون تاريخ، ولم يتبق من محاله التجارية الشهيرة الا القليل، مثل “مليون صنف”، ولو أن أحداً زار السوق القديم قبلاً وجاء اليوم ليزوره فلن يجد شيئاً. في ألمانيا على سبيل المثال ستجد محلاً عمره (50) عاماً، وتتم المحافظة عليه كمعلم تجاري تاريخي، وهذا تقليد موجود في كل دول العالم تجدهم يحافظون على شكل “وسط البلد”وملامحه، وهذا ما لم يحدث للسوق الإفرنجي. كان “الخواجات” في السابق يأتون للشراء من هنا، إلى أن تقلص العمل التجاري، وأصبح السوق في معظمه “فترينات”، ويزيد: هنالك عامل آخر نخر في عظم السوق الإفرنجي وجعله مادة قابلة للتآكل، وهو الظرف الاقتصادي المعروف، وهذا دفع ببعض التجار إلى الذهاب لأماكن أخرى في الخرطوم وإنشاء تجمعات تجارية، خاصة تجار الملابس، في شارع محمد نجيب مثلاً.
وفي جولة السوق الإفرنجي التقيت في محل “الصدارة” بالسيد “عوض الله بلولة” وهو من جانبه يؤكد وجود حالة ركود وصفها بالكبيرة، كما أثر ارتفاع الدولار على المبيعات، إضافة للدولار الجمركي، فهم كما يقول يشترون الملابس من الخارج بالدولار.
وفي محل “محمد نور للنظارات” الشهير يقول “وليد نوري” إن المحل يعد الأول بالسوق منذ العام 1970م، أسفل فندق “صحارى”، والظروف الاقتصادية الحالية وارتفاع سعر الدولار أثرت على أسعار النظارات الطبية والشمسية التي يوفرها المحل الذي عرف ببيعه للماركات العالمية المعروفة (كريستيان ديور، قوتشي، ريبان)، وتبدأ أسعار النظارات الطبية من (50) جنيهاً. عموماً لقد أضحى الإقبال على الشراء ضعيفاً، أما في المساء فأغلب المحال تغلق أبوابها، وحتى نتغلب على هذه المشكلة اتجهنا لفتح فروع لنا في أماكن أخرى مثل الرياض وأم درمان.
وينسحب ما آل إليه حال السوق الإفرنجي على معرض “مالك الدويح للخزن الحديدية والأثاثات”، وفقاً لتأكيدات “معتز محمد عثمان”، وبالنسبة لهم فهم كما يقول مقيدون بحركة المواد الخام، لأن لديهم مصنعاً يقوم بإنتاج ما يعرضون، وارتفاع أسعار المواد الخام يجبرهم على زيادة الأسعار.
وفي السياق يقول “متوكل خالد” صاحب (مكتبة المدثر): بالتأكيد فإن البيع قل بسبب الأسعار الزائدة، في السابق كانت أسعار الترابيز المكتبية معقولة وتباع بشكل منتظم، على سبيل المثال تربيزة الكمبيوتر كانت تباع بـ(200) جنيه، أما ثمنها اليوم فيبلغ (400) جنيه، ورق التصوير “الباكت” ثمنها الآن (16) جنيهاً، بينما كانت تباع بـ(10) جنيهات، وقس على ذلك. البيع الآن بات محصوراً في الأشياء الضرورية.
وفي محل “مليون صنف” الشهير، وجدت “سيف الدولة العاقب حسن” في قسم العطور المعروف بمحل العطور الباريسية، لم يختلف الوضع كثيراً، وأرجع “سيف الدولة” سبب تواصل ارتفاع الأسعار إلى انفصال الجنوب، حيث تلاحظ انخفاض القوة الشرائية، ويضيف: محلي تخصص في بيع العطور الباريسية، والزبائن على الرغم من ذلك هم من كل الأطياف، خاصة من الرياضيين والسياسيين ونجوم المجتمع وغيرهم، لقد طرأت زيادات على العطور “فهرنهايت”، “هوجو” ،”تو ون تو من”، و”بوس”، ولا تنسى عطور العود العربية، وبالنسبة للأسعار فهي تتراوح ما بين (60) إلى (100) جنيه، هذا بالنسبة للأعواد العربية، أما العطور الباريسية فثمنها يبدأ من (100) ويرتفع إلى (300) جنيه.
تجولت بأرجاء السوق الإفرنجي لاستجلاء حقيقة الموقف، وفي شركة “المحرك الذهبي للإلكترونيات” التقيت بـ”محمد عبد الله محمد الفكي” الذي أجاب بشكل واضح عن الموقف بالسوق الإفرنجي الآن وقال: يوجد الآن ركود شامل، فارتفاع الدولار أدى لإحجام المشترين، ومعروف أن السوق الإفرنجي كان يأتيه الزبائن من كل أنحاء السودان بالإضافة للأجانب. ويرجع “محمد” ليعرّف حجم الزيادات ويصفها بأنها ليست بالكبيرة، على عكس اعتقاد المشترين، ويضرب مثلاً بالهاتف الجوال من نوع “جلاكسي نوت” الذي يبلغ ثمنه (3,200) جنيه، وزاد الآن إلى (3,250) جنيهاً، أيضاً غطاء الهاتف الجوال (الكفر) ارتفع ثمنه من (5) جنيهات، إلى (7) جنيهات، وهنا يصف الزيادة بأنها ليست كبيرة، وقال إن مواعيد عمل السوق ظلت ثابتة لم تتغير.
أخيراً يبدو التغير واضحاً على معالم وحركة السوق الإفرنجي التجارية، وما زالت بنيته قابلة للتبدل بفعل معاول كثيرة ربما تفقده في النهاية جل ملامحه وإلى الأبد.