عن "سعد الدين إبراهيم".. بحكي ليكم
فاطمة مبارك
غيّب الموت أمس الشاعر العفيف “سعد الدين إبراهيم” فاكهة الصحافة السودانية العبارة التي كان يستخدمها أستاذنا “حسين خوجلي” حينما يريد الحديث عن الأشياء الجميلة.. رحل شاعرنا خفيف الظل ما أن تلتقيه حتى يقابلك بابتسامة عريضة تدخل السرور على نفسك ويدلف في رواية قصص وحكايات ينقلك بها من مهنة الهم والنكد إلى مساحات تفضفض فيها وتستنشق أجواء مختلفة عن ضغوطات العمل الصحفي.. غاب “سعد الدين” الذي ظل يمشي طول عمره راجلاً دون أن يمتلك عربة تخفف عليه متاعب الطريق.. وظل وسطياً في ميوله رغم أنه محسوب على اليسار.. لا يتشاجر ولا يخاصم وإنما يبحث عن مساحات يجمع حولها الناس بمختلف ألوان طيفهم.. فكان الشعر والغناء الجميل الذي يردده كل السودانيين.
تعرفت عليه في أول مسيرتي الصحفية وأنا كنت حينها أتلمس الطريق بصحيفة الخير والجمال ألوان عندما طلبت منه موعداً للقاء اجتماعي ووافق دون أي تعقيد وعلى غير العادة استغرق الحوار يوماً كاملاً تعامل معه بإحساس المبدع القلق.. فظل طوال فترة الحوار التي بهرني فيها بموهبة شاعرية متميزة.. يجيب على أسئلة الحوار تارة ويشاغل القادمين والجالسين بجواره تارة أخرى.. رغم ذلك لم أشعر بالملل لأنني بعد كل إجابة كنت أكتشف فيه مواهب نادرة ابتداءً من “سعد” الإنسان والفنان إلى “سعد” الكاتب الصحفي.. تناول الحوار محطات مهمة في حياته الاجتماعية بدأناها بمراحل الطفولة والمدرسة الأولية والوسطى وخطابات العشق إلى أن وصلنا قصة أول حبيبة والقصائد التي رأت النور والتي لم ترَ النور.. ومن بعد تعرفت على أشعاره التي تغنى بها فنانون كبار منهم الفنان “أبوعركي البخيت”.. عن حبيبتي بقولكم
عن حبيبتي أنا بحكي ليكم..
وضل ضفايرا ملتقانا
شِدو أوتار الضلوع ..
أنا بحكي ليكم عن حنانا
مرة غنت عن هوانا..
فرحت كل الحزانا
مرة لاقت في المدينة..
الحمامات الحزينة
قامت أدتا برتكانة
ولما طارت في الفضاء رددت أنغام رضا
قالت أول مرة في عمر المدينة
إنو نامت وما حزينة
وأغنية العزيزة التي تغنى بها الفنان “الطيّب مدثر”
اﻟﻌﺰﻳﺰﺓ ﺍﻟﻤﺎ ﺑﺘﺴﺄﻝ ﻋﻦ ﻇﺮﻭﻓﻨﺎ
ﺍﻟﻮﺣﻴﺪﺓ ﺍﻟﻤﺎ ﺑﺘﺤﺎﻭﻝ ﻳﻮﻡ ﺗﺸﻮﻓﻨﺎ
ﺍﻟﻮﺣﻴﺪﺓ ﺍﻟﻄﺎﻝ ﻋﺸﺎﻥ ﺟﻴﺘﻚ
ﻭﻗﻮﻓﻨﺎ
********
ﺍﻟﻤﻮﺍﻋﻴﺪ ﻟﺴﻪ ﺣﺰﻧﺎﻧﺔ ﺑﺘﻨﺎﺩﻱ
ﻭﺍﻟﺼﻮﺭ ﻣﻄﻠﻴﺔ ﺑﺎﻟﻠﻮﻥ ﺍﻟﺮﻣﺎﺩﻱ
ﻭﺍلأﻣﺎﺳﻲ ﺑﺘﺒﻜﻲ ﻓﻲ ﺃﺳﻰ ﻣﺎ
ﺍﻋﺘﻴﺎﺩﻱ
ﻣﺎ كنتِ ﺑﻬﺠﺘﻬﺎ ﺑﻲ ﺭﻭﺍﺋﻊ ﻗﻮﺱ
ﻗﺰﺡ
ﻭﺍﻟﻠﻪ ﻣﺎ ﻃﻼﻧﺎ ﻣﻦ ﺑﻌﺪﻙ ﻓﺮﺡ
******
ﺍﻟﻌﺰﻳﺰﺓ ﺍﻟﻤﺎ ﺑﺘﺴﺄﻝ ﻋﻦ ﻇﺮﻭﻓﻨﺎ
ﺍﻟﻮﺣﻴﺪﺓ ﺍﻟﻤﺎ ﺑﺘﺤﺎﻭﻝ ﻳﻮﻡ ﺗﺸﻮﻓﻨﺎ
ﺍﻟﻮﺣﻴﺪﺓ ﺍﻟﻄﺎﻝ ﻋﺸﺎﻥ ﺟﻴﺘﻚ ﻭﻗﻮﻓﻨﺎ
الحوار الذي أجريته معه كان فوق العادة بشهادة من اطلعوا عليه.. وأذكر أن أستاذ “حسين خوجلي” احتفى به وأفرد له صفحة كاملة.. أما “سعد الدين” فكان كل ما يلاقيني يقول لي حوارك لم يتكرر إلى درجة أني لا زلت محتفظاً بنسخة منه.. وكنت كل ما أقابله أقول له عايزة أكرر هذا الحوار مرة أخرى.. وسبحان الله لم يحن موعد تكراره إلا في منتصف هذا الأسبوع حيث هاتفته قبل ثلاثة أيام من رحيله طالبة منه تحديد موعد وقلت له في البداية كيف أحوالك يا شاعرنا الرقيق.. فقال لي بمناسبة الرقيق دي سأحكي لك نكتة وحكى نكتته وضحكنا سوياً واتفقنا على أن يكون الحوار يوم (الأربعاء) أمس الأول واتصلت عليه صباح (الأربعاء)، معتذرة عن الموعد بسبب التهاب الحلق الذي ألمّ بي فجأة.. فقلت له ممكن يكون الحوار يوم (الخميس).. يعني أمس يوم وفاته.. فقال لي ممكن نخليهو يوم (السبت) الساعة الثانية ظهراً والصوت كان متقطعاً لم أسمع كلامه وانقطعت المحادثة لكنه عاد لي مرة أخرى واتفقنا على (السبت) الذي رحل قبله بيومين صباح (الخميس) أمس. كعادتي فتحت الواتساب لمراجعة الرسائل فوجدت خبر نعيه متصدراً قروبات الوسط الصحفي والإعلامي.. ومن هول الصدمة لم أصدق وظللت لمدة دقيقة أبحث عن “سعد الدين إبراهيم” آخر.. وأخيراً اتصلت على الزميل “وليد النور” لأنه مهتم جداً بالعلاقات الاجتماعية عله ينفي لي الخبر.. لكنه أكد أنه الآن في بيت العزاء لا حول ولا قوة إلا بالله.. اللهم ارحمه واغفر له وأبدله داراً خيراً من داره وأهلاً خيراً من أهله وانزله منازل النبيين والصديقين والشهداء.. (إنّا لله وإنّا إليه راجعون).