أتذكرت صاحبي المكتول كمد!!
التجانى حاج موسى
الشاعر “عثمان خالد” يرحمه الله – لم يجد حظه من الشهرة الكثير، ربما لأن أغنياته التي تغنى بها المغنون قليلة، وربما لأنه كان رجلاً قلقاً يتجول في دنيا الله العريضة، لكنه كان مثقفاً وصحفياً يمتلك قلماً ينضح بالعذوبة والرقة والرومانسية.. تمنيت لو أتحفنا أخي الأستاذ “كمال حسن بخيت” بالكتابة عنه، فقد عاشا سنوات بـ”العراق”، لكن دعوني أنقل لكم أنموذجاً لكتابات “عثمان خالد” حينما يكتب نثراً “من عاصمة الرشيد حملني جناح غيمة.. حط بي على مساحة يانعة زاهية بالاخضرار وامتداد الظلال.. ترقد على ضفة (الأطلسي).. كعذراء مستحية تتوشح بثوبها الأخضر خشية العيون.. وحين تهبط الشمس على أحضان المحيط.. وهو يفتح ذراعيه لاحتوائها، يتمازج حزني بأحلامي.. كما يتمازج احمرار الشمس بتلك الزرقة الزاهية على سطح المحيط ويذوب فيه.. تلك هي مدينة (الرباط) يا فرحي!!”.
هذا نوع من الكتابة لا يصدر إلا من كاتب فنان مترع بالجمال.. أكتب عن “عثمان خالد” ويعتصرني ألم طالما تذوقت مرارته حينما يرحل من دنيانا حبيب وأتصبر بالسلوى والنسيان، لأن علاقتي بالناس قوامها المحبة الخالصة لا سيما إن كان من أعاشره من أبناء جنسي يشبهني مثلما قال الراحل “عثمان خالد”..
وعشان مليان بحب الناس
خيالي أتعدى ظلم الناس
وقلبي اتهدّ بجراحو
وعشان ازداد في حب الناس
ببوس جرحي وأتبسم
وناوي أعيش أحاضن الناس
عمر كامل بدون راحة
في أفراحه.. وفي جراحه
عشان الناس.. بعض الناس..
المات عندها الإحساس
تكون طوالي مرتاحة!!
والناس عندنا في السودان ينسون الناس نادر ما نكتب عن عظمائنا أو مبدعينا أو كتابنا.. برغم أننا نزعم بأن لنا إرثاً من الحضارة، وحقيقة لنا إرث حضاري حفره الأجداد في قبورهم وآثارهم، لكننا حتى الآن لم نقرأ جيداً ما كتبوه على تلك الجدران.. لا نهتم والطريف أن الأجنبي يهتم بدراسة تاريخنا ويخبرنا بأننا أصل الحضارة الإنسانية وحتى علمائنا الذين تخصصوا في علم الاجتماع والتاريخ يدرسوا ما تعلموه للغير!!
زرت مرة مدينة “بارا” الجميلة مسقط رأس الراحل “عثمان”، وهناك أدركت أن مكان ميلاد المبدع له دور كبير في إبداعه.. هناك التقيت بشقيقه الأصغر جاء في إجازة، إذ يعمل في دولة عربية هو الآخر شاعر مجيد، إذ تقاسم جينات الشعر من أخيه الشاعر الراحل.. كنت قد تحدثت معه عن مدى رصد وطباعة آثار الراحل الشعرية والأدبية، ووعد بالاهتمام بهذا الأمر، وها آنذا أناشده وأسرته وأصدقاء الراحل بالتوثيق له.. وتظل أغنية (إلى مسافرة) تلك الرائعة التي لحنها وصدح بها المطرب الكبير “حمد الريح” إحدى روائع “عثمان خالد” الشعرية الغنائية، والقصيدة لعلم لقارئ طويلة اقتطع منها “حمد الريح” جزءاً يسيراً وهي من أطول ما غنى:
يا قلبي يا مكتول كمد
أعصر دموع..
هات غنوة لي سيد البلد..
يا حليلو قال سايب البلد
يا حليلو كيفن يبتعد
وكيفن نسيبو يروح بعيد
في رحلة مجهولة الأمد
وهنالك نصوص غنائية رائعة تصلح للتلحين والغناء لو وقف عليها مؤلفو الألحان الغنائية مثلاً جزء من نص رائع:
أنا يا بلد
مددت حبل الذكرى
فوق غيمات كثاف اتمددت
زادوني منك ومن هواك
صوراً يبكن ويبهجن
فصدوا العروق النازفة
بالسفر الكثير
وحاطوها بي جدلة حرير
شربانة من نفس البلد
أنا يا بلد
أنا ما بحبك إنت جد!!
والراحل الموسيقار “كسلاوي” لحن لشاعرنا وغنى مطربنا “عبد العزيز المبارك”:
أنا بيك بدغدغ في الحروف
يا حلوة أحرف وأشتلا
أملاها رقة دندنات
وعناق حنان ومغازلة
وأهديكم نصاً بعنوان.. منو الفنان؟
مش أي زول بنظم حروف أو حتى لو بكتب غنا ممكن يكون (فنان).. يعيش الدنيا فن ويزينه أو حتى صداح كان يغني الناس ويديهم هنا أو حتى رسام كان بيسقي اللوحة ديمة يلونه أو حتى مثال كور الصلصاال في صورة وزينة تحكم عليهو بأنه فنان العصور والأزمنة.
الفن ده في الأعماق مواقد راشحة بالحب والغنا، الفن هو الإحساس وحب الناس، تجاوز الأمكنة.. الفن هو الأذن الرهيفة والقلوب الهينة، ولو زول كتب مقطع جميل أو رسمه أو لو قال غنا ممكن يكون زول مجتهد عشق الكتابة وأدمنه.. وممكن يكون (سيد) صوت جميل ويقول حروف ما بتقنه.
أو يبقى دارس للعروض عرف الحروف كيف يوزنه لكن يكون فنان.. شي تاني..
الفن دا حس والفن جنا
بس كل ألم الدنيا عندنا والحقيقة المحزنة..
ضيعة أصالة الناس في زحمة ولفظة الفنان هنا!!
يرحمك الله “عثمان خالد” الشاعر الأديب الجميل الأنيق، تذكرتك وآخر لقاء بيننا وأنت تصارع السرطان اللعين وأنا مصاب بالملاريا الخبيثة في أمسية حزينة بعيادة صديقنا الشاعر الطبيب “عمر محمود خالد”، ويقودني صديقي الشاعر اللواء الركن “أبو قرون عبد الله أبو قرون” وحرمي المصون، والناس في العيادة مندهشين نقرأ عليهم أشعارنا.. أنا أهزي وأنت تضحك.. المشهد كان في بداية تسعينيات القرن الماضي – والله أيام يا زمان!!