بعد.. ومسافة
صحافة ما وراء الظاهر..!
مصطفى أبو العزائم
القراء متنوعون ومختلفون، مثل كتاب الصحف، لذلك نجد كُتاباً مفضلين لبعض القراء دون غيرهم، يتنقلون معهم أينما كتبوا، وتتأثر في الغالب الصحف التي كانوا يكتبون مقالاتهم أو أعمدتهم فيها إذا ما انتقلوا إلى صحف أخرى، والتي سوف تنتعش الأخرى بالضرورة لانتقال كتاب لهم شعبيتهم وجماهيريتهم إليها.. ولكن ماذا لو اختفت أقلام كثيرة (بفعل فاعل) وغابت عن ساحات العمل الصحفي ومساحات صفحات الصحف.. (؟) ونعني بالاختفاء ذلك الغياب الإجباري، الذي لا تكون فيه للصحيفة يد ولا للكاتب فيه قلم.
تم إيقاف عدد من الزملاء من الصحفيين والكتاب بزعم أنهم لا يحملون شهادة السجل الصحفي التي كانت تصدر عن المجلس القومي للصحافة والمطبوعات الصحفية وفق شروط محددة، نجح الصحافيون في أن يتحول إصدار الشهادة من الاتحاد العام للصحفيين السودانيين، إما بعد الخضوع لامتحانات السجل للمتقدمين من خريجي الجامعات – كلية الإعلام وغيرها – وإما بمنح شهادة السجل الصحفي بـ(الخبرة) وفق شروط محددة إذا انطبقت على طالب شهادة السجل الصحفي تمنح له ليمارس المهنة بالاحتراف، وإما تمنح له بالانتساب إن كان كاتباً راتباً أو أستاذاً جامعياً أو خبيراً في مجال ما أو متخصصاً في أحد التخصصات التي تفيد المواطن العام. وقد تم ذلك في عهد الاتحاد العام السابق الذي ترأسه أستاذنا وزميلنا الكبير الدكتور “محي الدين تيتاوي” – شفاه الله وهو يستشفى الآن بالخارج – وتشرفت بأن كنت نائباً لرئيس الاتحاد العام للصحفيين آنذاك، بينما تولى زميلنا الأستاذ “الفاتح السيد” أعمال الأمانة العامة للاتحاد.
الآن برز هذا الاتجاه الخطير بأن يصدر المجلس القومي للصحافة والمطبوعات الصحفية قراراً بمنع عدد من الصحفيين والكتاب ويخاطب صحفهم بأنهم غير مستوفين لشروط الكتابة، ولا يحملون شهادة السجل الصحفي (!).
أولاً أود تسجيل موقف للتاريخ باسمي وأسماء مئات الصحفيين مثلي، برفض هذا القرار مهما كانت المبررات، وهو أسلوب لا تقبله الفطرة ولا حق الإنسان في التعبير، ويتعارض مع حرية الرأي، خاصة إذا كان الكاتب صحفياً محترفاً ظل يزاول هذه المهنة سنين عدداً ولا يعمل في غير ساحاتها.
ثانياً.. نحن مع تنظيم المهنة لكننا في ذات الوقت لسنا مع التضييق على الكتاب والصحفيين، ولا مع إخضاعهم لأجهزة قياس غير أجهزة القياس المهني.. ونرفض تماماً أن تتم عملية فرز ألوان سياسية، يمنح بموجبها هذا حق الكتابة ويمنع ذاك.. ففي هذا ظلم بين ومبين للصحافة وللصحفيين وللجهات المنظمة لهذه المهنة التي تقوم على الحرية وإبداء الرأي.
صحافة هذا العصر تقوم على الرأي والتحليل والتقرير والتفسير ولا تقوم على الخبر وحده مثلما كانت قبل عقود.. الأخبار الآن باتت هي التي تبحث عن الناس، لا العكس، لذلك اتجهت الصحف لاستكتاب أهل الرأي وصناعه للبحث في ما وراء الخبر.. تحليلاً وتفسيراً وإبداءً للرأي، وهذا الأمر لم يعد قاصراً على الصحفيين العاملين في المهنة، فهناك خبراء ومختصون يقومون بذات المهمة، وهم يعملون في مجالات أخرى، وتعتبر الصحف هي إحدى الوسائل التي يبرزون من خلالها جهودهم العلمية والمتخصصة وعرضها على جمهور القراء.
ومثل هذه القرارات (العشوائية) ستضعف الصحافة السودانية أكثر مما هي ضعيفة الآن، بسبب التدخلات من غير أهل الشأن الصحفي والتي جعلت الصحف أقرب ما تكون إلى صحيفة واحدة بأسماء متعددة (!).
ظللت وعلى مدى سنوات عديدة أجهر برأي وأعلن أنني ضد السجل الصحفي أصلاً، لأن الذي يمنح الصحفي شرف الانتشار والتأثير هو القارئ لا بوابات القيود أو السجلات الصحفية، وإذا ظللنا نطبق مثل هذه القرارات العشوائية وغير المنطقية سنفقد أقلاماً عديدة ومهمة تحتاجها الصحف والقراء والدولة.. وتخيل – يا أعزك الله – صحافة سودانية لا يكتب فيها مختصون وخبراء ونقاد وأدباء لأنهم لا يحملون شهادة القيد (السجل) الصحفي، تخيل غياب أساتذة كبار مختصين عن الكتابة في الصحف من أهل السياسة الذين يرفدون الصحف بالرأي والمقال والتحليل، وتخيل غياب أسماء اعتاد عليها القراء وظلوا يحرصون على متابعة ما تكتب أمثال شاعرنا الكبير “هاشم صديق”، والخبيرة التربوية “آمال سراج” وشاعرنا الكبير “التجاني حاج موسى”، والمهندس “عمر البكري أبو حراز”، وأطباؤنا الذين يحررون الصفحات الطبية ويجيبون على استفسارات القراء الطبية والصحية.. تخيل غياب أقلام متخصصة في النقد الفني والأدبي تحرر الصفحات والملاحق الثقافية من أمثال الأستاذ “السر السيد” مثلاً، لا لسبب إلا لأنهم لا يحملون شهادة السجل الصحفي.
نقول للذين أصدروا هذا القرار المعيب.. تراجعوا عنه يرحمكم الله.