حوارات

الشيخ "حسن الترابي" في شاهد على العصر بقناة الجزيرة (الحلقة الأولى – الجزء الأول):

حركة التحرر الإسلامي كانت صغيرة وسرية ولم أشهد مولدها ولكنني شهدت أول أيامها
اتحيرت بعد أن أحرزت الشهادة الأعلى وكنت أفكر في دراسة الطب أو اللغة ولست برجعي النظرة ولا منطقع عن الجذور
نشأت في أسرة تعود بأصولها إلى شيخ كبير كانت له ثورات في العدالة السياسية والعلم والصوفية والقرآن مع سلطنة سنار الإسلامية
رصد: طلال إسماعيل
 وبعد طول ترقب، بثت قناة الجزيرة أمس (الأحد) الحلقة الأولى من برنامج “شاهد على العصر” مع الشيخ الفقيد “حسن عبدالله الترابي” الذي يقدمه الأستاذ “أحمد منصور” الذي أعاد تعريف الحلقة الأولى عقب وفاة الشيخ “الترابي”، وذكر “منصور” أنه ولد في يوم (الاثنين) 25 رمضان 1350 للهجرة، الموافق الأول من (فبراير) 1932، تغيرات كبيرة كانت بصمات الدكتور الشيخ الترابي ودوره الفاعل في كل تفاصيلها، درس الحقوق  في جامعة الخرطوم ثم حصل على الإجازة في جامعة اكسفورد ببريطانيا 1957، حصل على درجة الدكتوراة من جامعة السوربون في باريس في شهر يوليو 1964، أتقن الدكتور الشيخ “الترابي” (4) لغات، بالإضافة إلى العربية والإنجليزية والفرنسية والألمانية بطلاقة، وكان هذا من أسباب سعة أفقه واطلاعه على علوم واسعة، عمل بعد عودته من فرنسا أستاذاً في جامعة الخرطوم، ثم عميداً لكلية الحقوق، ثم تفرغ للعمل السياسي، لعب دوراً بارزاً في ثورة (أكتوبر) 1964م التي قامت ضد نظام “عبود” العسكري. رغم سجنه ثلاث مرات على يد “جعفر نميري” إلا أنه تحالف معه وأصبح في عهده وزيراً للعدل 1988، ثم عين نائباً لرئيس الوزراء ووزيراً للخارجية في حكومة “الصادق المهدي”. تحالف سراً مع العسكر بقيادة “عمر البشير” وقام بانقلاب عسكري في شهر (يونيو) 1989م، غير أن خلافاً نشب بينه و”البشير” في 1999م، أسس الشيخ “الترابي” على أعقابه حزب المؤتمر الشعبي، وأصبح في صفوف المعارضة، اعتقل وسجن عدة مرات. عاش الشيخ “الترابي” واسع الأفق عفيف النفس بعيد النظر فقيهاً مجهتداً مجدداً وزعيماً سياسياً ودينياً ورجل دولة من الطراز الفريد، كان صاحب حضور طاغٍ وعلم غزير وبصيرة نافذة، تميز بترفعه دائماً عن الصغائر، سمحاً طيب النفس عرف بآرائه المثيرة للجدل واجتهاداته المثيرة ولكنه كان يحظى باحترام واسع داخل السودان وخارجه، نتابع خلال هذه الحلقة والحلقات القادمة التي سجلت في شهر (أكتوبر) 2010م شهادته على عصر السودان الحديث ودور الحركة الإسلامية في السودان .
*”أحمد منصور”: دكتور مرحباً بك؟
-الشيخ “الترابي”: وعليكم السلام.
*”أحمد منصور”: أخيراً من بعد عشر سنوات تمكنا من أن نسجل “شاهد على العصر”؟
-الشيخ “الترابي”: حالت بينها الحوائل وتعسرت علينا مسيرات الأمور في السودان.
*أحمد منصور”: ضحك  ثم قال (ربنا يتم لينا على خير) ، وواصل سؤاله: ولدت في يوم الاثنين 25 رمضان 1350 للهجرة، الموافق الأول من فبراير/ شباط 1932 للميلاد، كيف كانت طفولتك ونشأتك؟
-الشيخ “الترابي”: من أقدار الله أن نشأت في أسرة تعود بأصولها في بضع جدود  إلى شيخ كبير كان له ثورات في العدالة السياسية والعلم والصوفية والقرآن مع سلطنة سنار الإسلامية القديمة، لكن حتى الوالد كان قد حفظ القرآن ودخل القضاء الشرعي، لذلك أصبح يحركه أمر السودان من منطقة إلى منطقة، لذلك قدر الله لي أن أولد في أقصى شرق السودان.
*”أحمد منصور”: ولدت في مدينة كسلا؟
-الشيخ “الترابي”: نعم، مع الحدود مع أرتيريا ونشأت في غرب السودان في كردفان ثم نشأت جنوباً شيئاً ما.
*”أحمد منصور”: كنت تتنقل مع والدك؟
-الشيخ “الترابي”: نعم المدارس لم تكن تتوافر لنا ولكن نتحرك إلى المدرسة ونعود إليه، وقليلاً ما نعود إلى القرية الأصل المسماة باسم الجد الأكبر.
*”حمد منصور”: هذه الطفولة كان لها تأثير عليك؟
-الشيخ “الترابي”: طبعاً، أولاً بسطت في نفسي روحاً قومية والسودان الآن قارة فيه شعوب وأقاليم وبيئات، والآن بدأت هذه الروح والنزعة للعصبيات المحلية والإقليمية والقبلية، ولكن أنا أصبحت أنتمي إلى كل هذا المد السوداني، هذه واحدة، وثانياً الوالد تعليمه تقليدي وهو أول خريجي المعهد العلمي العالي في السودان.
*”أحمد منصور”: ماذا كان وضع هذا المعهد؟
 -الشيخ “الترابي”: هو معهد التعليم التقليدي الديني الأعلى، لا كبقية المعاهد.
*”أحمد منصور”: يعني مثل الجامعة؟
-الشيخ “الترابي”: نعم، مثل الجامعة وكان أول الدفعة في العام 1925 وكان يمدني دائماً بكل الثقافة التي تلقاها.
*”أحمد منصور”: ما طبيعة هذه الثقافة؟
-الشيخ “الترابي”: اللغة العربية كلها، وأحفظ المعلقات والنحو والصرف  وبنية الأفعال في الصرف والعروض والقوافي وأوزانها، وكان يمدني أيضاً بالثقافة الدينية بدرجات الكتب التي نقرأها نحن في السودان على المذهب المالكي، ولكن دخلت علينا بالقضاء من مصر المذهب الحنفي، اتساع المقارنة بين المذاهب منذ طفولتي بدأ، بينما كنت لا أتعلم في معاهد دينية أو في خلاوى قرآن، بل في المدارس الدوامية. جمعت في أول نشأتي بين الذي يعمل فكرك واجتهادك ويلقنك العلوم الحديثة، وبين الذي تتلقى منه العلوم التقليدية، وأنا لست برجعي النظرة ولا منقطع عن الجذور، هذا الذي جمع هي  الطفولة وهذا قدر من الله  سبحانه وتعالى.
*”أحمد منصور”: المدارس النظامية كانت تتبع النظام البريطاني على أساس أن السودان تحت الاحتلال؟
-الشيخ “الترابي”: نعم.
*”أحمد منصور”: وكنت تدرس اللغة الإنجليزية؟
-الشيخ “الترابي”: نعم، منذ الثانوي كل العلوم إلا العربية تدرس باللغة الإنجليزية، هذا فتح لي أبواب اللغات حتى اتسعت فيها بعد ذلك.
*”أحمد منصور”: وتأسيسك في اللغة والفقه وغيرها أيضاً كان قومياً؟
-الشيخ “الترابي”: عبر الألفية والصرف والقوافي وشرح اللغة نفسها ومحفوظات الشعر الجاهلي والمعلقات والثقافة الدينية أيضاً في البيت، والوالد قاضي شرعي، كنت أذهب وأراقب المحكمة.
“أحمد منصور”: كنت تذهب للمحكمة؟
-الشيخ “الترابي”: أرجع من المدرسة مبكراً وأذهب لأراقب الاستجوابات والقضاء والمحكمة.
*”أحمد منصور”: هل لعب هذا دوراً بعد ذلك في اختيارك القانون؟
-الشيخ “الترابي”: أنا اتحيرت بعد أن أحرزت الشهادة الأعلى للثانوية في السودان، وكان لي الخيار وما كنت أريد الهندسة لأن أخي الأكبر كان فيها، وكنت أفكر بين الطب واللغة.
*”أحمد منصور”: بين الطب واللغة ولم تفكر في القانون؟
-الشيخ “الترابي”: وفي نهاية الأمر، الحياد، ذهبت إلى القانون لميزان القانون بينهما.
*”أحمد منصور”: حتى بدأت تدرس القانون لم يكن خيارك من الطفولة؟
-الشيخ “الترابي”: طبعاً والدي كان قاضياً وهو طاف البلاد كلها، فكان يمكن أن أبقى على القضاء والقانون والأحكام الشرعية  زاد كافياً، ونحن لا ندرس القانون في الثانوي طبعاً وندرس اللغات والعلوم الأساسية، وهذا التخصص هو الذي قادني إلى القانون، والقانون نفسه مقارن بين الشريعة والقانون البريطاني.
*”أحمد منصور”: أنت التحقت بجامعة الخرطوم في 1951 وأنهيت دراستك في 1955م، كيف كانت هذه السنوات؟
-الشيخ “الترابي”: هذه أيضاً عرضتني لتجربة جديدة، تعرضت في الجامعة لتيارين، التيار البريطاني الذي كان يخشانا ويعطف علينا من الثانوي والجامعي طبعاً.
*”أحمد منصور”: ما شكل هذا التيار؟
-الشيخ “الترابي”: تيار يريد أن يزرع فينا اللغة الانجليزية حتى إذا أمكن ننصرف تماماً كل القطاع الحديث إلى اللغة الانجليزية وتبدل لغة البلد كلها وتصبح اللغة العربية تنعزل إلى الهامش حتى تذوب كما حدث في بلاد كثيرة وطمست لغتها تمام، ثانياً طبعاً مع الفكر اللبرالي الغربي لا سيما أن السودان لم يفتحه الإسلام لم يفتحه فتحاً، دخله الإسلام يسري فيه الصوفية والعلماء والهجرة ولكن البريطانيين دخلوه باسم العثمانيين باسم “محمد علي باشا” لذلك أرادوا أن يطمسوا الدين حتى لا ينشأ فيه نشأة أخرى مثل نشأة “المهدي” التي ضربتهم وقتلتهم تقتيلاً، وكانت تستنصر بمحمد علي باشا طبعاً خبراء في الاستعمار وفي القتال.
{“أحمد منصور”: البريطانيون تقصد؟
-الشيخ الترابي: نعم، أرادوا أن تطمس هذه تماماً لتخرج أجيال كلها تتوجه للثقافة الليبرالية الغربية.
{“أحمد منصور”: في ذلك الوقت كانت مصر والسودان دولة واحدة؟
-الشيخ الترابي: لا، السودان كان يحكمه البريطانيون والمصريون البريطانيون أولاً والمصريون ثانياً لأن مصر نفسها كانت تحت الاحتلال البريطاني .. هذا تيار .
{أحمد منصور: هل هذا التيار الأول المرتبط ببريطانيا كان له أنصار من السودانيين؟
-الشيخ الترابي: نعم لم يكن منظوماً في تنظيم لكن  كان تياراً في الزي ونريد أن نقلد البريطانيين في لهجة النطق والزي والسلوك ونستشرف أيضاً أفكارهم وهكذا ونصرف الدين لا عمداً ولكن غفلة إلا أنها مقصودة إلى هامش الحياة الخاصة، في خارج الساحة نشأت في تلك السنين نشأة وطنية لا في السودان وحده ولكن في كثير من المستعمرات في الهند والسودان وأفريقيا، فكانت نزعة وطنية تريد أن تخرج الاستعمار لا نظام الحكم ولا مذهب الاقتصاد والمؤسسات والقانون.
{أحمد منصور: أن يبقى هذا فقط يخرج الاستعمار بالزي العسكري؟
-الشيخ الترابي:  الاستعمار لم يكن عسكرياً بالطبع معه جيش لكن الاستعمار الأجنبي، هذا التيار الوطني في الخارج لكن فقط في الخريجين لم تكن له قواعد كانت قواعده كلها تقوم على الدين الذي يقوم على الطرق الصوفية والجماعات الدينية والقبائل فكانت تؤثر على هذه القواعد.. أما في الجامعة التيار الذي عارض هو التيار الذي استوحى من العالم من الشرق عداء الغرب  وكان الشرق حبيباً إلى كثير من النزعات التحررية في العالم العربي، قد تنزع عربياً لكن تخلط معها الاشتراكية أو تنزع إسلامياً وتخلط معاها.
{أحمد منصو: ما هي التيارات التي كانت في الجامعة؟
-الشيخ الترابي: تيار يساري صغير.
{أحمد منصور: والإسلاميون لم يكن لهم؟
-الشيخ الترابي: جاءوا عقب ذلك.
{أحمد منصور: لا في الفترة من 51 19 الإخوان في عام   1928 مصر أسس حسن البنا الإخوان وامتدوا إلى الأردن السودان كانت الأقرب كانت امتداداً لمصر ألم يكن تيار الإخوان وصل في عام 1951؟
-الشيخ الترابي: مصر كانت مهمشة.
{أحمد منصور: في السودان تقصد؟
-الشيخ الترابي: نعم في السودان، باسم مصر البريطانيون احتلوا السودان حتى يصرفوا الفرنسيين عن مصر وغيرهم صدوهم صداً باسم هذه الأرض وهذه حيلهم في صراعات حول الأراضي الاستعمارية.
{أحمد منصور: في 1952 قامت ثورة يوليو في مصر هل كان لها تأثير على السودانيين؟
-الشيخ الترابي: حتى من قبل ذلك كانت هنالك مدود تأتينا غير مدود دينية من مجتمعنا التقليدي صوفياً كان أو فقهاء  أو شيوخ قران، غير المد الليبرالي كان يأتينا مد يساري كما حدثتك وأحياناً من تلقاء بريطانيين يساريين والطلاب ذهبوا إلى مصر وتلقوا من هناك اليسار.
{أحمد منصور: أنت كنت تميل إلى أي اتجاه؟
-الشيخ الترابي: طبعاً ثقافتي دينية جدي شيخ كبير وأبي حفظ القرآن وعالم لغة وثقافة  درستها ولقنتها ولكن الجامعة أحيت هذه العلوم وكانت  علوم محفوظات عندي وموروثات عندي.
{أحمد منصور: كيف أحيتها ودراستك كانت بالانجليزية؟
-الشيخ الترابي: بالتصدي . التصدي لها بتيار يريد أن يمسحها وينسخها طبعاً إذا تعرضت للتحدي أنت تتصدى وتنشط فيك روح التصدي.
{أحمد منصور: يعني هذا الموروث الذي بدأ معك في الطفولة شعرت بقيمته في الجامعة؟
-الشيخ الترابي: كان محفوظات ومروثات فقط
أحمد منصور:حينما تعرضت للصدام ظهر؟
-الشيخ الترابي: نعم
{أحمد منصور: وقد احتميت فيه؟
-الشيخ الترابي: نعم كانت حركة صغيرة لم أشهد مولدها ولكنني شهدت أول أيامها، حركة تحرر إسلامي سرية.
{أحمد منصور: من كان وراءها ؟
-الشيخ الترابي : طبعاً، أنت تعرف كان هنالك حركة تحرر وطني شيوعية، ففي الطلاب كان النزاع ساد بين الطلاب، والحركة الوطنية كانت خارج الطلاب في الساحة العامة.
{أحمد منصور: وكانت بين المثقفين فقط؟
-الشيخ الترابي: بين المثقفين فقط ..يعني يسمى نادي الخريجين وهنا الجامعات بدأت فيها الحركة اليسارية الشيوعية ولم تكن تسمى حزب شيوعي لأن البلد لم تكن تستقل بعض فسميناها حركة تحرير إسلامي، إسلامي في وجهها،  بعض الذين دخلوا علينا كانوا من التيار اليساري لما اكتشفوا فيه صدوداً عن الدين.
{أحمد منصور: من أبرز الشخصيات فيها؟
-الشيخ الترابي: بابكر كرار رحمه الله كانت له نزعة اشتراكية، في حزب اشتراكي إسلامي، ثم ذهب إلى ليبيا ودخل في الكتاب الأخضر.
{أحمد منصور: يعني لم يكن حتى الفكر الإسلامي صافياً في ذلك الوقت؟
-الشيخ الترابي: لم يكن صافياً، وكان من هذه المتون، ولكن جاءتنا كتب أيضاً.
{أحمد منصور: ما هي أهم هذه الكتب؟
-الشيخ الترابي: من شمال أفريقيا تأتينا أولاً من كتب محمد عبده والأفغاني ومن كتب الإخوان المسلمين خاصة الغزالي وثم سيد قطب جاء متأخراً بالطبع ومالك بن نبي أيضاً، ويأتينا حتى من باكستان –  كانت مستعمرة بريطانية، الهند عندئذ، باكستان لم تخرج إلا في العام 1947 وجاءتنا هذه المتون الفكرية الدينية المتجددة.
{أحمد منصور: ولكنها من مدارس مختلفة؟
-الشيخ الترابي: نعم، ولكن كنا نأخذ منها جميعاً، وألواننا لا ندري هل نحن هنود؟ أم عرب؟ أم أفارقة؟ نحن ليست فينا عصبية أفريقية، المد الأفريقي كان في بلاد أخرى كان ينشط جداً..
{أحمد منصور:  أعود لانقلاب يوليو1952 في مصر وتأثيره عليكم، هل كان دافعاً لتنشيط حركة الاستقلال وحركة المد الوطني والقضاء على الاحتلال أو المستعمر؟
-الشيخ الترابي: طبعاً، هذا المد الوطني والكفاح الوطني كان في كل بلاد المستعمرات والبريطانيون والفرنسيون بعد الحرب العالمية الثانية فتروا وخرجوا وبلادهم ادمرت فأرادوا أن يفرغوا لبلادهم ومن العسير عليهم أن يقاوموا كل هذه مرة أخرى بحروب على الجهادية والوطنية عليهم السودان مثلا استقل مبكراً لكن قبله الهند ولاحقته دول أفريقية.

 

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية