خربشات (الجمعة)
ما كان “سيد أحمد الحاردلو” السفير والأديب والشاعر الذي امتزجت في دمائه النوبية والعربية، فالأب من جهة الشايقية والأم من قرية (ناوا) في عمق أرض الدناقلة، ما كان ناقماً ولا غاضباً على وطنه حينما أصدر مجموعته القصصية (ملعون أبوكي بلد).. والعنوان دليل محبة وعشق سرمدي رغم مظهر (الشتيمة) الظاهر في العنوان، وحب الشعراء لأوطانهم وانحيازهم لقضايا شعبهم هي ما جعلت “صلاح أخو فاطنة” يتقدم باستقالته من وزارة الخارجية، وهي استقالة لا تشبه هروب بعض سفراء السودان من الخدمة في النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي كهروب السفير “عمر عثمان” من ماليزيا، والهروب الأخير للسفير “عادل شرفي” من كمبالا لأحضان “ياسر عرمان” ليصبح مشجعاً لـ”عرمان” على القتال بعد أن كان ممثلاً لبلاده في يوغندا.. وقد أقسم زميلنا الصحافي “خالد الأعيسر” يوم (خناقة) نقل مباراة المريخ الشهير.. بأن لا يبقى السفير في موقعه.. وصدق “الأعيسر” فقد خلع السفير عباءة الوظيفة وأصبح سياسياً ينتظر سقوط الإنقاذ.. وكان السفير “الحاردلو” شفيفاً.. عفيفاً.. نظيفاً.. يغني بطريقته الخاصة ورسم الحزن تجاعيده على أشعار “الحاردلو” السياسية والاجتماعية وحتى العاطفية.. حتى حينما عاد لقريته (ناوا) كتب فيها يقول أعود إليك (يا ناوا) وليس معي سوى أحزان وحفنة نار، سوى أشعار يرددها في صمت الليل وصخب النهار وبالأسى، والأحزان على الوطن الذي ينزف دماً منذ الاستقلال وحتى اليوم، تقرحت كبد “سيد أحمد الحاردلو” ووهن جسده.. واستوطن المرض كل أعضاء جسمه إلا مخيلة الشاعر التي ظلت تعطي.. وتنثر الأفراح حتى غادر الدنيا باكياً لا على نفسه ولا على (ناوا).. ولكن على وطن شقيّ وصبر على الشقاء، تعب وصبر على التعب، ولكن بين ركام الأسى والحزن يتسلل دوماً في هجعة الليل صوت المغني “عثمان حسين” الذي هو الآخر من ديار الشايقية التي لو لم تعطِ هذا الوطن إلا وسامة الكلام النظيف وحلو النغم لكفاها.. و”عثمان حسين” الذي لا يزال حتى في زمن الواتساب ينمو حبه السامي.
داوم على حبي
ما تفكر تنساني..
وقيل والعهدة على الراوي “معاوية حسن يسين” إن أغنية “وردي” أعز الناس أهداها إليه “عثمان حسين” حينما اكتشف أنها كتبت من أجل “وردي” وحده..
يا أعز الناس حبايبك نحن.. زيدنا قليل حنان
دا العمر زادت غلاوتو معاك
وصالحني الزمان
يا أحن الناس حنان
كنت من قبلك
بشيل الليل دموع
واطويه هم
أنا كنت بخشى على الأماني الطفلة
يفنيها العدم
وجي لقيتك بين قليبي دموع وغنيتك نغم..
وإبداع الشايقية له ارتباط وثيق بجغرافية المكان.. وخصائص الزمان.. وتلك الأرض التي تعرف بمنحنى النيل أنجبت نصف شعراء بلادي.. والإبداع له علاقة ظاهرية بالجينات والأرض.. فقبائل المورو في جبال النوبة تتميز دون غيرها من القبائل النوبية بموسيقى تثير كوامن الشجن في النفس، يترنم فتيان وفتيات المورو في الليالي المقمرة وتحت ظلال أشجار العرديب بأنغام شجية مثلما تترنم امرأة طاعنة في السن بالقرير ومروي وتنقاسي.
يا ود أمي كيف أمسيت..
عليك مثل الطيور غنيت
ولكن أشواق الشايقية وحنينهم الجارف للأمهات وأرض الشمال، جفت ينابيع الحنين بعد أن تمددت الطرق بين تلك الديار والمدن في الوسط والمركز، ومع كل تمدد كيلو متر من الأسفلت يجف ينبوع من الشعر.. وما تبقى من الحنين والشوق قضى عليه الواتساب والفيس بوك.. أما المورو فإنهم لا يزالون في عزلتهم وحزنهم، وقد توطن الموت ديارهم وبنى له عمارات وفنادق.. والحزن عندنا في الجبال الشامخة أصبح هو الأصل!!
(2)
مدينة نيالا تمثل تمازج الحداثة والحضارة والإرث التاريخي القديم.. كانت تسمى البحير غرب الجبيل.. وهي حاضرة البقارة في دارفور، مثلما زالنجي هي حاضرة الفور، والجنينة حاضرة المساليت، والفاشر هي العاصمة كرش الفيل.. تجمع الفور والعرب والبرتي والميدوب سكان الصحراء و(الكنيين) الذين يتحدثون الأمازيقية ونيالا مجتمع حنين.. كريم.. ما أن تطأ قدماك أرضها إلا وتسابق الناس للاحتفاء بك.. الكل بطريقته الخاصة.. نزلنا المدينة يوم (الاثنين) الماضي.. وقبل أن ينفض جمع المواطنين بساحة الشهيد “السحيني” كان شيخ العرب والرزيقي الشهم الكريم “محمد حسين” الشهير بـ”حميميد” يقدم دعوته لنا ونحن مجموعة تختلف في مشاربها ومواقعها د.”شوقار” رئيس الاتحاد الوطني للشباب السوداني الذي ينشط في برامج التغيير الاجتماعي والاقتصادي وسط القطاعات الحية.. والصحافي وسيم العبارة وأفضل محقق ومحاور الآن في الساحة الإعلامية “فتح الرحمن شبارقة” ووزير الدولة بالسياحة الشاب “عادل دقلو” الذي يبدو متفائلاً جداً بمستقبل السياحة في السودان.. ورغم أن “عادل” شاب طموح ويمثل الجيل الذي ينتظر دوره في حكم السودان بعد (5) سنوات من الآن، إلا أنه (يؤمن) بأن هذه البلاد سياحية ويمكن للسياحة الازدهار والنمو في الأعوام القادمة، سألته هل تستطيع الحكومة الوفاء باستحقاقات السياحة، قال نعم.. قلت وهل تريدون أن تصبح هذه البلاد قبلة للسواح مثل لبنان ومصر (وزيادة كمان) اقترحت عليه في هدوء إلغاء الشريعة الإسلامية تماماً من الحياة العامة.. ضحك “شوقار” وقال مستحيل!! طبعاً هناك من (يتوهم) وجود سياحة نظيفة.. ويقول إن المناطق الأثرية التاريخية في الشمال ظلت تستقبل السواح في كل عام.. ولكن هؤلاء غالبهم من الباحثين والدارسين.. لا السواح الذين يبحثون عن الشمس الدافئة.. والاسترخاء في فصل الشتاء بعيداً عن جليد أوروبا.. ونحن بلد تفيض بالحروب والصراعات.. والموت المجاني.. والنهب ومناخها حار جاف طول العام والخريف سيول وفيضانات وكوارث وباعوض.. فكيف يأتي السواح من إيطاليا وفرنسا.. والخليج لبلد لا تتوفر فيها خدمات الكهرباء ولا خدمات النقل.. التاكسي في “الخرطوم” منذ عهد “عبود”.. والسكك الحديدية (شيعها) الجماعة.. والمناطق السياحية الحقيقية قد استوطنت فيها الصراعات، فكيف تتنامى السياحة في هذا الواقع.. وقد يحلم الوزير أنصار السنة ولكنه مثل حلم امرأة بلغت الخمسين بإنجاب طفل يجمل عليها حياتها اليائسة.
في منزل “محمد حسين” (حميميد)، كانت كل القضايا حاضرة.. وقد أسهب الرجل في شرح أبعاد قضية دارفور.. وخلفياتها.. وكيف تصدت قوات الدعم السريع للمتمردين في قوز دنقو، وكيف كانت ستكون دارفور لو وصلت تلك القوات إلى جبل مرة ودار زغاوة.. (حميميد) لم يخفِ امتعاضه من الطريقة التي اتبعت في ترخيص السيارات بنيالا.. وتداعي التجار من كل فج عميق للاستفادة من قرار اتخذته حكومة الولاية من أجل عربات المقاتلين الذين استولوا عليها بعرق الجبين وخدمة (الضراع).. ولكن استفاد من القرار السماسرة.. والوسطاء.. (حميميد) يقطن وسط بيوت الأرامل والشهداء الذين وهبوا أرواحهم من أجل الاستقرار في دارفور.. وهو من القيادات التي تسند ظهر اللواء “حميدتي” ولها اعتقاد بأن الرجل سيقضي على التمرد نهائياً في غضون هذا العام.
(3)
من يقرأ لـ”محمد المكي إبراهيم” بعد أكتوبر الأخضر وأشعار الستينيات.. يشعر بأن الرجل قد انصرف من الشعر إلى الدبلوماسية والسياسة وهو من قال في قصيدة بعض الرحيق أنا والبرتقالة أنت
الله يا خلاسية
يا حانة مفروشة بالرمل
يا مجدولة من شعر أغنية
يا وردة باللون مسقية
بعض الرحيق أنا والبرتقالة أنت..
وكل (جمعة) والجميع بخير.