أزمة الضعف الفكري والسياسي لقيادة الحزب الشيوعي
صلاح محمد الحسن القويضي
salahmasrawa@yahoo.com
أخطر نتائج 19 يوليو 1971م هي أنها غيبت قيادة الحزب التاريخية وخلقت ظروفا استثنائية وضعت على رأس الحزب قيادة أمر واقع لم تكن أبدا على قدر المهمة التي اختيرت لها. كان على قيادة الأمر الواقع تلك أن تنجز ثلاث مهام أساسية هي:
1. تأمين جسد الحزب وامتصاص الصدمة من اجل الانتقال تدريجيا من مواقع الدفاع السلبي لمواقع الدفاع الايجابي ومن ثم الهجوم لاسترداد ما فقد.
2. تقييم حركة 19 يوليو وآثارها على الحزب الشيوعي والحركة الديمقراطية بشقيها المدني والعسكري.
3. التحضير لعقد مؤتمر الحزب الرابع.
وللأسف الشديد فقد أخفقت اللجنة المركزية في كل المهام التي أوكلت لها فأنجزتها بطريقة شائهة مبتسرة تتسق تماما مع حقيقة ضعفها الفكري والتنظيمي والسياسي الذي دمغها به الرفيق راشد في رسالته من منفاه بالقاهرة في 1970م حين قال بأن المهمة المركزية للحزب بعد مؤتمر الكادر تتمثل في التصدي لمظاهر الضعف في حلقته القيادية عبر التحضير الجيد لعقد المؤتمر الخامس. واستمر ذلك الإخفاق حتى بعد انتزاع شعبنا للديمقراطية عبر انتفاضة مارس / إبريل 1985 م والتي وفرت ظرفا ديمقراطيا ملائما لإنجاز تلك المهام.
{ 1985 م – 1989 م
استمرار الفشل في ظروف الديمقراطية
1. التأمين الإداري
خلال فترة الحكم المايوي اعتمدت قيادة الحزب منهجا تنظيميا قائما على مبدأ التأمين من خلال الإجراءات الإدارية. وقد نجح ذلك المنهج في الحفاظ على جسد الحزب وأدوات عمله السري في فترة المواجهات التي تلت انقلاب 22 يوليو 1971م الذي أعاد نميري وضباطه للسلطة. مع مرور الزمن وتراخي القبضة الأمنية وتنامي روح التحدي وسط الشيوعيين كان المأمول أن تنتقل قيادة الحزب لمنهج جديد في التامين يقوم على المقاومة التدريجية وامتصاص إجراءات النظام الأمنية واستغلال كل الثغرات المتاحة لتغيير الوضع من حالة الدفاع السلبي لحالة الدفاع الايجابي تمهيدا للانتقال لمرحلة الهجوم. لكن القيادة استمرت في نهجها القائم على التأمين عبر الإجراءات الإدارية بدون مراعاة لحالة النهوض الجزئي للحركة الجماهيرية.
بل إن القيادة المركزية استمرت في ذلك حتى عشية الانتفاضة. ففي وقت أدرك فيه كل صاحب تقدير سليم أن نظام مايو يتهاوى وأن أيام النميري في الحكم باتت تحسب بالأسابيع بل بالأيام والساعات كانت ل م منهمكة في مناقشة قضايا بعيدة كل البعد عن قضايا الانتفاضة التي كانت تتخلق وتبرز مظاهرها للعيان. وحتى في الأيام القليلة التي سبقت انتصار الانتفاضة كانت قيادة الحزب تناقش قضايا التأمين عبر الإجراءات الإدارية.
وإن أنس لا أنس أحد مسئولي المنطقة الحزبيين والذي زارني في ساعة متأخرة من ليلة الثالث من إبريل 1985م ليبلغني أن إجراءات تأمين شخصي تتطلب انتقالي من المنزل الذي أقيم فيه لسكن بديل. رددت عليه ساخرا وممتعضا (يا زميل نحن متفقين نتلاقى باكر قدام شجرة محمد عز الدين وندور مظاهراتنا…دا تأميننا الحقيقي وسط الجماهير وفي قيادتها). وبالفعل انطلقت مظاهرات أبناء مدني البواسل من كل الاتجاهات السياسية ولم تتوقف حتى سقط نظام النميري. وقد لعب الشيوعيون والديمقراطيون ، وخصوصا عمال النسيج والمعلمون والمثقفون دورا قياديا بارزا في تلك المظاهرات مما اكسبهم احترام وتقدير كل مواطنيها.
{ القصور في مواجهة الانقلاب
لازمت هذه العقلية عمل ل م القيادي في مجال التأمين في أعقاب انقلاب 30 يونيو 1989م. فقد لجأت لذات الإجراءات المتمثلة في الإخفاء والاختفاء السلبي وجمدت كل عمل الحزب فخسرت بذلك إمكانية ابتدار مقاومة جريئة للنظام في أيامه الأولى كانت جديرة على الأقل بتغيير حسابات الإسلامويين. وكانت أول أوجه القصور السلبية التامة لمركز الحزب في مقاومة الانقلاب رغم وصول معلومات موثوقة من مدنيين وعسكريين حول الانقلاب وخطته التفصيلية قبل عدة أيام من ساعة الصفر.
{ سياسة الانسحاب والتراجع
وبعد ان وقعت الواقعة وفي وجه سياسات الاعتقال التي انتهجها النظام في عهده الأول انتهجت القيادة منهج التراجع الاستراتيجي الشامل المتمثل في تهجير الكوادر والقيادات وحتى الأعضاء العاديين ناشرة جوا من الرعب في استجابة تامة لهجمة النظام بدلا من امتصاصها ومقاومتها بمختلف الطرق. كان لذلك المنحى الهروبي ألانسحابي أثره على مجمل حركة الجماهير والتي كانت تنتظر القدوة والمثل من الشيوعيين وحزبهم. لا يقلل ذلك من الصمود البطولي للعديد من الشيوعيين والديمقراطيين والمعارضين من أحزاب أخرى من الذين تحملوا عبء إجراءات النظام من اعتقال وفصل من العمل ومحاربة في الرزق واختاروا التمسك بالبقاء والمقاومة والتصدي للنظام وإجراءاته القمعية في شجاعة منقطعة النظير. كان المشهد كوميديا لهيئة أركان سياسية تخلي الميدان لعدوها فاهجر كوادرها القيادية والوسيطة وتفتح الباب واسعا لمن أراد أن يهاجر بلا ضابط تنظيمي.
علينا أن تقارن ذلك بسلوك أحزاب شيوعية أخرى الحزب الشيوعي التشيلي الذي واجه انقلاب بينوشيه الدموي الذي سفك دماء عشرات الآلاف من الشيوعيين والاشتراكيين ومارس عنف لا يقارن إطلاقا بعنف الإسلامويين. استطاع الحزب الشيوعي التشيلي وحلفاؤه امتصاص الصدمة الأولى لعنف بينوشيه الدموي الفاشي وشرعوا في المقاومة منذ الأيام التي تلت الانقلاب. وكان من وسائل مقاومتهم تحديد الخروج من البلاد وحصره بحاجة المقاومة نفسها والحالات التي تستوجب الهجرة لتفادي خطر الموت فقط. وكان من وسائل مقاومته إقامة تحالف يساري وديمقراطي جماهيري استطاع في النهاية أن يهزم الانقلاب ويستعيد الديمقراطية ويعيد القوي الديمقراطية للسلطة.
{ نتائج كارثية لمنهج قيادة الحزب
أدى منهج قيادة الحزب إلى إحباط جماهيري واسع وصبغ حركة المعارضة بالسلبية لزمن طويل. كما ان منهج التامين بالوسائل الإدارية كان لا بد ان ينهزم بحكم الإمكانيات الهائلة التي يمتلكها امن النظام. فانتهت سياسات التامين نهاية متساوية بالزيارة الفاجعة التي قام بها مدير امن النظام لمخبأ الامين العام للحزب وصودرت خلالها كل وثائق ل م الموجودة فيه…شكلت تلك الزيارة نصرا معنويا كبيرا للنظام وخلفت إحباطا واسعا في صفوف الشيوعيين وأصدقائهم ومجمل معارضي النظام. وبدلا من ان تواجه ل م الأمر بما يقتضيه من تغيير للمنهج والعقلية انطلقت اتهامات الاختراق لتطال سمعة اللصيقين بتامين الامين العام.