تقارير

)المجهر) تزور قرية "ود الترابي" وتحصل على خفايا وأسرار حياة الراحل المفكر الدكتور "حسن عبد الله الترابي"

التقت أخوانه وأصدقاءه وأهله
أراد والده أن يسميه (معاوية).. واختار له جده لأمه اسم (الحسن)
زيارة قام بها : عماد الحلاوي
سرداق كبير أقامه أهل قرية “ود الترابي” لسبعة أيام لتلقي العزاء من أهل القرى المجاورة في فقدهم الجلل الراحل الدكتور “حسن الترابي”. السرادق نصب في ذات المكان الذي كان الراحل يقيم فيه عند زياراته الراتبة للقرية (سراية الشيخ عبد الله).(المجهر) قدمت واجب العزاء لأهل القرية ولشقيقه الأصغر “يعقوب” باعتباره أخ الراحل الوحيد الذي يقيم بالقرية الآن. جميع أهل القرية ينتمون إلى أب واحد، فيما يتوزع أبناء عمومتهم في القرى المجاورة (حلة حمد – طيبة النعيم – أبروس – القلقالة – الحليلة – الكسمبر)، ويتفق أهل المنطقة في أن بقرية التكينة أكثر من (200) شاب وطفل يحملون اسمه (حسن)، تيمنا به، كما يوجد بالتكينة أصدقاؤه من الإسلاميين (محمد حامد التكينة -عبد الرؤوف التكيتة).
جلس إلينا “يعقوب” للحديث عن الراحل بعد أن دعا ابن خالته ونديد الشيخ “حسن”، “محمد الأمين محمد عثمان” وابن عمه “علي محمد حسن” القيادي بالمؤتمر الشعبي وشيخ قرية الترابي.
وما بين الدمع والعَبرة والعِبرة كان اللقاء أدناه:
تأسيس المنطقة
اسم “الترابي” ويعود هذا اللقب إلى جدنا السابع العارف بالله الشيخ “حمد الترابي” البديري الدهمشي، الذي نزح من دبة الفقراء بالولاية الشمالية، بغرض نشر علوم الدين والحديث واستقر بالمنطقة.
وكان هذا الجد فقيهاً يدرس علوم القرآن، ولم تكن له نزعة للتصوف التقليدي بأن ينتمي إلى طريقة صوفية أو يعتكف في خلاوى ورهبانية أو يقلد شعائر الصوفية، التصوف عنده يعني التعمق في الدين، فكان مستقلاً وكان واسع الهمّ الديني ويعمل أيضاً بالسياسة.
توفي الشيخ “حمد” في العام (1116هـ)، ودفن داخل مسيده بالقرية.
ومن أبرز أبناء الشيخ “حمد”، الشيخ “النعيم ود مضوي” الذي سلك الطريقة السمانية علي يد الشيخ “الطيب ود البشير”، والشيخ “عبد الله الترابي” القاضي الشرعي وأول من تخرج في معهد أم درمان العلمي، و”النعيم ود حمد” الذي اشتهر بالكرم.
ويحكى عن (الترابي الجد) الراحل الشيخ “حسن” أنه ذات مرة ذهب إلى الحج، ووجد في الحرم المكي أناساً يُعدّون فرساً أبيض اللون مزيّناً سرجه إعداداً كاملاً، فلما سألهم عن ذاك العرض، قالوا له: نحن نعدّ هذا الفرس للمهدي الذي سيظهر هنا ويركب هذا الفرس، فاستخفّ بهذه الفكرة وتحيّن غفلتهم وركبه ليردّهم عن ذلك الوهم المشهور، ولكن بعض الناس ظنوا أنه المهدي حقاً، فاعتقله الوالي وأدخله السجن خوفاً منه طبعاً.
أما الراحل الشيخ “حسن”، فهو “حسن عبدالله دفع الله محمد النعيم البشير النعيم عبد الحبيب النعيم الشيخ حمد ودالترابي”، ووالدته “نفيسة الخليفة إبراهيم الحاج ود البشير”.
سر اسم “حسن”
قال شقيقه “يعقوب”: (ولد الشيخ حسن في أواخر رمضان 1351 هجرية، الموافق 1/ فبراير/1932م) بمدينة كسلا، أراد والدي أن يسميه معاوية إلا أن جده لأمه الخليفة إبراهيم  الحاج ود البشير الذي ذهب لمباركته، وتمسك بتسميته  الحسن تيمناً بسيدي الحسن أب جلابية راجل كسلا،
وعندما أكمل أسبوعه حمله الخليفة إبراهيم إلى خليفة الشيخ أب جلابية الشيخ الغرقان، والذي قام بترييقه بتمرة وقال إن شاء الله هذا الغلام سيكون له شأن، وجده لأمه هذا، والده الخليفة الحاج ود البشير وهو أول من سلك الطريقة الختمية بالبلاد على يد الإمام الختم بمكة المكرمة).
توفيت والدة الشيخ “حسن”، “نفيسة الخليفة إبراهيم الحاج ود البشير النعيم عبد الحبيب النعيم الشيخ حمد”، وهو صغير، فعمل الوالد على اصطحابه معه حيثما نقل، فالوالد كان يعمل “قاضي شرعي”.
فدرس الابتدائية بمدينة أم روابة والروصيرص، والمتوسطة بمدينة رفاعة ثم التحق بمدرسة حنتوب الثانوية.
*منزل الأسرة
يقع منزل أسرة الشيخ “حسن” في الناحية الشرقية من القرية، وهو منزل بسيط كسائر بيوت أهل المنطقة، ويوجد بالقرب منه مسجد (فريق قدام)،
وقال شقيقه “يعقوب” إن هذا المسجد أنشأه الوالد “عبد الله الترابي”، وهو مدفون في فنائه، وقبل وفاته أوصى الوالد بأن يكون خليفته في إدارة شؤون المسجد الشيخ “حسن”، ومن بعده أكبر الأحياء من الأبناء، وكان الشيخ “حسن” يقوم بأمر المسجد طوال حياته، والآن انتقلت الخلافة إلى أخينا الأكبر الدكتور “دفع الله الترابي” وفق وصية الوالد.
كان الشيخ “حسن” يداوم على زيارة أهله بالقرية وتفقد أحوالهم، كما يشاركهم الأتراح قبل الأفراح، ويصطحب معه أبناءه، وقال شقيقه “يعقوب” إن مساهمته المالية تكون بقدر حاجة صاحب المناسبة، ولم يكن هنالك عقد قران إلا وكان “الترابي” حضوراً يقدم رسالة التوجيه والإرشاد في شكل ممازحة، ويقول مداعباً في مراسم عقد الزواج: (العروسة وكيلة نفسها ما دامت موجودة)، وقد طبق ذلك في زواج ابنته الصغرى أمامة، كان دائماً يحرص على أداء صلاة عيد الفطر في القرية التي ينتظره أهلها، ليقدم لهم خطبته بلغة بسيطة يفهمونها، حيث يتوافد أهل القرى المجاورة لسماعه.
*وصية الراحل
تمنى أهل القرية وكبار الأسرة أن يوارى جسمان ابنهم العالم الدكتور “حسن الترابي” إلى جوار والده، إلا أن وصية الراحل (غير المكتوبة) بدفنه بمقابر بري حرمتهم من ذلك.
وقال “يعقوب” إن الراحل في يوم ما وأثناء الونسة بينه وأخينا “دفع الله”، وكانت حديثاً عن الموت، قال له “دفع الله” (نحن يجب أن ندفن في ود الترابي)، فرد الشيخ “حسن” (ما بتقدروا على دفنا)، وقبل شهر من وفاته زارته بمنزله ابنة أخينا (هدى محمد عبد الله الترابي) وزوجها “محمد علي محمد”، ودار الحديث عن الموت، فقال لهم الشيخ “حسن”: (إذا مت أكفن بمنزلي، وأدفن في أقرب مقبرة للمسلمين لمنزلي).
*مسيرته العلمية
وفي العام 1951م التحق “الترابي” بكلية الحقوق بجامعة الخرطوم، وتخرج في عام 1955م.
ويقول “علي محمد حسن” شيخ قرية “ود الترابي”، إنهم كشباب عندما يذهبون لزيارته أيام الجامعة بالداخلية كان (يفسحهم بالحدائق العامة)، حديقة الحيوانات، ويرفض أن يأخذهم إلى دور السينما،
ويشير إلى أنه على الرغم من توفر وظائف في القضاء والمحاماة والنيابة العامة في ذلك الوقت للخريجين، إلا أن الشيخ “حسن” لم يتقدم للالتحاق بها، بل صبر حتى نال منحة للدراسة في جامعة (لندن) التي قضى بها عامين نال فيهما درجة الماجستير في القانون في عام 1957م.
وبعد أن أكمل الشيخ “حسن” دراسة الماجستير، عاد ليعمل أستاذاً في كلية القانون جامعة الخرطوم، ثم سافر إلى فرنسا لنيل درجة الدكتوراة من كلية القانون بجامعة (السوربون) عام 1964م، وكانت رسالته بعنوان: (الأحكام العرفية دراسة مقارنة بين القانون
الإنجلوسكسوني والقانون الفرنسي)، واستطاع الراحل “الترابي” عبر السنوات التي قضاها في فرنسا أن يتقن أربع لغات بفصاحة: (اللغة العربية، الإنجليزية، الفرنسية، والألمانية).
وتقلد الشيخ “حسن” بعد عودته من فرنسا منصب عميد كلية القانون بسبب خلو المقعد من آخر عميد لها بريطاني الجنسية، ولكن عمل “الترابي” الأكاديمي لم يدم طويلاً، حيث كان المناخ السياسي في السودان يشهد تحولاً كبيراً بانطلاقة شرارة انتفاضة أكتوبر الشعبية ضد الحكم العسكري (نظام عبود)، الذي استلم السلطة بانقلاب في (نوفمبر)عام 1958م، وقد كان الشيخ “الترابي” خطيب الثورة الأول عبر طرحه القوي لحل مشكلة جنوب السودان، وفتحت ثورة (أكتوبر) أبواب العمل العام على مصراعيه لبروز نجم جديد في السياسة السودانية اسمه “الترابي”.
*تهديده بالانتحار
تعرّف الشيخ “حسن” أثناء دراسته في جامعة الخرطوم على فكر جماعة الإخوان المسلمين، فانضم إليها وأصبح أحد أعضاء جبهة الميثاق الإسلامية سنة 1969، لكنه انفصل عن الجماعة فيما بعد واتخذ سبيله مستقلاً.
ويقول نديده وابن خالته “محمد الأمين محمد عثمان” إنه في  عام 1969م حينما قام “جعفر نميري” بانقلاب (مايو)، اعتقل أعضاء جبهة الميثاق، فدخل “الترابي” في عهده السجن ثلاث مرات، وأمضى الشيخ “حسن” سبع سنوات في سجون “نميري”، وهناك حفـظ القرآن الكريم بعدة قراءات، وذات مرة زاره في السجن والده الشيخ “عبدالله” وطلب منه مصالحة نظام “نميري”، وأشار له بأن السيد علي أوصى الختمية أنه إذا أتى نظام يخلفكم الرأي (لا تعادونه ولكن لا تعملوا معه)،
لذلك عليه أن لا يعادي نظام (مايو) ولا يعمل معه، فغضب الشيخ “حسن” وقال لوالده: (تانى لو طلبت منى طلب ذي دا بنتحر في السجن).
أراد الانقلاب والطائفتان الإسلاميتان الوصول لحل وسط في عام 1977، وقد كان إطلاق سراح “الترابي” جزءاً من هذا الحل، وأفضت المصالحة إلى إعلان تطبيق الشريعة الإسلامية 1983.
وقال شقيقه الأصغر “يعقوب” إن أمن “نميري” ظل يلاحق شيخ “حسن” وياتيه متخفياً في قرية “ود الترابي”، وآخر مرة أتى رجل أمن متخفياً في هيئة مادح، وكشف أمره، ولكن الوالد قام بإكرامه حتى رحيله.
أعلنت حكومة “نميري” فرض قوانين الشريعة الإسلامية في عام 1983، وانقلبت بعدها على جبهة الميثاق الإسلامية -حليفتها في السلطة- عارض الشعب هذا الأمر بواسطة الإجراءات القانونية مثل حل البرلمان.
بعد أن سقط نظام “نميري” 1985 بثورة شعبية فتحت الطريق أمام قيام حكم منتخب، فأسس “الترابي” 1986 الجبهة الإسلامية القومية التي ترشحت للبرلمان فحلت ثالثة، كما ترشح الشيخ “حسن” للبرلمان ولكنه لم يفز.
*تأثره بوالده
وقال شقيقه الأصغر “يعقوب”: (الوالد عبد الله دفع الله الترابي  أول من تخرج في المعهد العلمي الأعلى في مدينة أم درمان في عهد البريطانيين في عام 1925م، استقطبه  المستعمر البريطاني للعمل بالقضاء الشرعي الخاص بالأسرة، وهو المجال الوحيد الذي يحكم بالشريعة الإسلامية آنذاك، وكانت الشؤون الدينية الخاصّة تتبع للقضاء الشرعي، فكان والدي يرفض تدخلهم في تطبيق الشريعة أو ثبوت هلال رمضان أو تصديق المساجد، لذلك كان يغضب عليه البريطانيون فينقلونه من مكان إلى آخر في أرجاء السودان، فتنقل الشيخ “حسن” معه وتعرف على كل أرجاء السودان، كما استفاد من ملاصقته للوالد في العلوم الشرعية، وكانت دافعه في دراسة القانون.
*زواجه من السيدة “وصال”
ويروي ابن عمه وشيخ القرية “علي محمد حسن” أن الشيخ “الترابي” عندما أراد الزواج من السيدة الفضلى “وصال الصديق المهدي”، رفض والده فى بداية الأمر تخوفاً من أن ينجرف ابنه في تيار الأنصار ويبعد عن الطريقة الختمية التي يعتقد فيها جميع أهله، فاستشار السيد “علي الميرغني” في ذلك فقال له : (الحسن ما بجروه معاهم، هو بجرهم معاه، على بركة الله اذهبوا إلى أهلها)، فذهب الشيخ “عبد الله” لخطبتها من والدها السيد “الصديق المهدي” وبرفقته (10) من القضاة الشرعيين، فقال لهم: (طال ما الولد والبنت متفقين مبروك عليكم)، وتم الزواج.
وقال بن خالته “محمد الأمين” إن السيدة “وصال” امرأة فاضلة ظلت تتواصل معهم بالقرية وتأتي برفقة الشيخ “حسن” دائماً.
*ميراثه بالقرية
وأكد شقيقه “يعقوب” أن ما تركه الشيخ “حسن” باسمه (بلدات مساحتها ثلاثة أفدنة ونص) اشتراها له الوالد في حياته، بالإضافة إلى نصيبه في ميراث والده، فقد عاش الراحل زاهداً في جمع المال، ولا منزل له بالقرية، وكان عند زياراته للقرية يقيم في سرايا والدنا “عبد الله”.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية