تأبين أسطوري لـ"الترابي".. عهود تتجدد وآمال في جمع الصف تتمدد
زينته ثناءات (أنصار السنّة) و(الإخوان) ودعوات العدل والمساواة
الخرطوم- عقيل أحمد ناعم
الآلاف من الرجال والنساء كانت تغص بهم الساحة الشاسعة أمام السرادق مترامي الأطراف، جاءوا يحملون أحزانهم.. وذكرياتهم.. بل وأحلامهم في حياةٍ ممتدة لأفكار ومشاريع رجل ملأ الدنيا وشغل الناس.. أمس الأول تداعى إخوان وتلاميذ وأحباب، بل وبعض من هم في خانة الخصوم للشيخ المجدد د. “حسن الترابي”، لتأبينه والإعلان عن بداية عهد جديد يغيب فيه (الشيخ) بجسده وتحضر أفكاره وآماله في وحدة صفٍ لأوسع قطاع من قوى البلاد تتعدى الإسلاميين إلى غيرهم، لتنفتح كُوةٌ من ضوء لإكمال ما بدأه (الشيخ)- ما كان الناس يظنون انفتاحها- وممثل الجماعة السلفية الأكبر في البلاد (أنصار السنّة المحمدية) يفاجئ الحضور بحديث عن “الترابي” وحياته أثلج الصدور وأفاض الدموع واستحث التكبير والتهليل وهو يدعو لجمع الصف المسلم بالبلاد، وهو بارقة أمل، اتسق مع ما صدر عن جميع المتحدثين حتى حملة السلاح منهم.
{ الإخوان.. هل يكونون الأقرب؟
يكاد أن يكون إسلاميو السودان صادرين عن مشكاة واحدة رغم أشكال التباين والتخاصم أحياناً، والأقرب لبعضهم هم أصحاب المرجعية الإخوانية، ولا أدل على ذلك من الزيارة الشهيرة للدكتور “الترابي” قبل وفاته بوقت قصير إلى المركز العام لجماعة الإخوان المسلمين بضاحية “العمارات” في إطار سعيه للتقريب بين القوى الإسلامية في إطار مشروعه الكبير لجمع الصف الوطني، وهو ما عبر عنه القيادي بالجماعة الباشمهندس “الصادق أبو شورة” في كلمته أمام حشود التأبين مذكراً الجميع بأن “الترابي” كان مهموماً بوحدة الإسلاميين ووحدة كل قوى البلاد وقال: (يجب أن نسعى لإكمال هذا المشروع)، ومضى إلى المناداة بضرورة إيصال قضية الحوار الوطني- التي كانت واحدة من أولويات “الترابي”- إلى نهاياتها، ولم ينس “أبو شورة” أن يدبج المدح لزعيم الإسلاميين واصفاً إياه بأنه قائد وزعيم بكل معاني الزعامة والقيادة، وأشاد بما وصفه بأنه “الانتقال السلس” لقيادة المؤتمر الشعبي إلى الشيخ “إبراهيم السنوسي” بما يدل على تناغم قيادة الحزب. ويبدو منذ فترة أن إخوان السودان ومنذ الموقف القوي لـ”الترابي” وحزبه ضد الانقلاب على أول رئيس مصري منتخب والمنتمي لجماعة الإخوان د. “محمد مرسي” وما تبعه من قمع للجماعة، أصبحوا أميل للالتقاء مع الحركة الإسلامية السودانية التي يتزعمها “الترابي”، بالنظر إلى أنه ليست هناك أية خلافات فكرية تمنع هذا التقارب.
{ أنصار السنّة.. ليسوا سواء
غير خافٍ ما بين كثير من الجماعات السلفية و”الترابي” من خلاف حول أفكاره التجديدية التي كان جريئاً في طرحها دون مواراة أو وجل، ما دفع بعضهم بتطرفٍ وغلو مفرط لإخراج الرجل من حظيرة الدين. لكن بالأمس ارتسم على مسرح هذه العلاقة مشهد مختلف أكثر وعياً وتفهماً لوُسع هذا الدين، بل وأكثر تبشيراً بإمكانية ما ظنه الناس مستحيلاً من خلق مشتركات ونقاط التقاء بين الإسلام الحركي ونظيره السلفي، فممثل جماعة أنصار السنّة المحمدية الذي خاطب التأبين انتزع الدهشة من وجوه الجميع وكساها بالبشر والأمل وهو يرسل في حق “الترابي” شهادةً تكاد أن تكون الأولى من نوعها تصدر عن جماعة سلفية، فالرجل لم يستنكف أن يصف “الترابي” بأنه ظاهرة إسلامية نادراً ما تتكرر وأنه القائد الفذ والمميز والمفكر الذي انبرى لقيادة الأمة وهو في الثانية والثلاثين من عمره وقال: (أتى “الترابي” حين كان الناس يحتاجون لقائد يجمع صفهم ويوحد كلمتهم)، وأعلن على الملأ وفي اعتراف نادر أن “الترابي” له الفضل بعد الله سبحانه وتعالى في الإعلان بدين الله في منابر لم يعتد الناس أن يتم الجهر فيها بالإسلام، ومضى الإقرار إلى القول: (صرحنا في الجامعات باسم الإسلام ولكننا للحقيقة وجدنا أمامنا مساجد تدعو للإسلام ونقاشات في الدين اتفقنا أو اختلفنا معها لكنها كانت عصفاً ذهنياً أفضى لتمدد مؤسسات العلم لتخرِّج علماء ودعاة للإسلام). ونبه “ياسر محمد الحسن” إلى أن “الترابي” تحمل عبء وجريرة إعلان تطبيق الشريعة الإسلامية في العام 1983م بكل كدٍ وصمود، وذهب إلى ما يبدو أنه واحد من المشتركات بين الجماعات الإسلامية التي لـ”الترابي” فيها فضل بائن وكعب عالٍ وهو الموقف من انتشار العلمانية في السودان، إذ قال ممثل أنصار السنّة: (لقد تحمل “الترابي” عبء إماتة أعتى أبواب الكفر متمثلة في العلمانية وغيرها)، وأضاف: (لازال أهل الضلالة يحملونه المسؤولية لكننا نعتبرها شرفاً له).
بعدها نفذ ممثل الجماعة السلفية الأكبر بالبلاد إلى نقطة مركزية في هذا التوقيت أدمت حناجر الحضور بالتكبير والتهليل وهو يرسل دعوته ورجاءاته لمن سماهم قادة العمل الإسلامي بالسودان لتوحيد الصفوف وتبادل الأدوار، وتمنى عليهم أن يدعوا الشجار والخلاف بينهم وأن يسد كلٌ منهم ثغرةً من ثغرات الإسلام، ومضى الرجل لمسيرة الحوار عادّاً (الفاجعة) والرحيل المفاجئ لـ”الترابي” تحدياً للحكومة والمعارضة في إكمال مشروع الحوار، وصرّح الرجل بأفكار متقدمة حول حكمة رحيل كاريزما الرجل الواحد وقال: (أخذ الله كاريزما الرجل الواحد حتى يتحمل الناس من بعده المسؤولية).
{ تناسي الماضي والجراح ورسائل لـ”البشير”
إجماع بين متحدثي الشعبي والوطني على النظر للمستقبل وترك الماضي وراء ظهورهم، وهو حديث يكتسب أهميته من أن أحد قائليه هو القيادي الشعبي د. “علي الحاج” الذي قضى أكثر من عقد من الزمان في منفاه بألمانيا مغاضباً ومناوئاً لنظام الإنقاذ، فقد أعلن “الحاج” على الحضور تركه الماضي وراء ظهره وتناسي كل ما بينه وبين حاكم أو محكوم وقال: (هذه رسالتي أتيت لأقولها لكم بأن يتجاوز الجميع هذه المرحلة وهذه المشاكل)، وهو الأمر الذي تجاوب معه الحضور بالتكبير والتهليل، بل وتجاوب معه الأمين السياسي للمؤتمر الوطني “حامد ممتاز” وهو يعتلي المنصة معلناً تجاوز حزبه (الجراحات والصراع على السلطة)، مطالباً كل القوى السياسية بالإقبال على الحوار حول قضايا السودان، مؤكداً استعداد المؤتمر الوطني لتنفيذ كل مخرجات الحوار. إلا أن د. “علي الحاج” أشار إلى أن ما توصل إليه الحوار لا زال ناقصاً وعدّها مسؤولية الرئيس “البشير” في إكماله وقال” (أدعو الرئيس بحكم المسؤولية والعلاقة لإكمال ما تبقى من الحوار)، مشيراً إلى أن هناك أذناً صاغية للحوار من الجميع، ولفت إلى أنه تلقى رسالة تعزية من الأمين العام للحركة الشعبية قطاع الشمال “ياسر عرمان”، بجانب مخاطبة رئيس الجبهة الثورية “جبريل إبراهيم” لبرنامج التأبين، وقال: (هذه دلالات يجب أن نغتنمها حتى تمضي البلاد لمصير خير)، مؤكداً أن هذا الخير سيأتي من السودانيين أنفسهم وليس من الخارج.
{ “جبريل”.. استيصاء بأمانة وأمنيات “الترابي”
بقي الناس مشدودين ومقدم البرنامج القيادي بالشعبي “أبو بكر عبد الرازق” يعلن أن رئيس حركة العدل والمساواة- إحدى أكبر حركات دارفور المسلحة- سيخاطب الحضور عبر الهاتف، وبالفعل جاء صوت الرجل وبدا متأثراً لفراق شيخه السابق وترحّم عليه عادّاً رحيله نبأ عظيماً حتى على من تمنوا ذهابه لأنه رقم يصعب تجاوزه في كل العالم، مؤكداً أن فراغه لن يملأه محبٌ أو كاره باعتباره شخصية فريدة جمعت بين الإيمان والعمل والتوكل والإقدام، وسعت لتوحيد القرآن والسلطان في زمانٍ سلّم فيه الناس بأنه ليس لله نصيب في ما عند قيصر، مشيراً إلى أنه نذر كل حياته لرسالته التي آمن بها وقال: (“الترابي” ترك إرثاً في علم الدين والدنيا وتجربة تنظيمية عظيمة تجعل كل من يحاول أن يجاريه يجد عنتاً في تحقيق معشار ما أنجز). ونبه “جبريل” الحضور إلى أن “الترابي” ترك أمانة ثقيلة تنوء بحملها الجبال الرواسي وأمنية عظيمة متمثلة في لم شعث السودان وتحقيق وحدته وقال: (يجب على الموفين بالعهود تحقيق هذه الأمنية الأخيرة وهذا الهدف).