رأي

المشهد السياسى

الشيخ الترابي.. العطاء والوداع
موسى يعقوب
رحل مساء السبت الخامس والعشرين من جمادي الأولى 1437 – 5 مارس 2016م الشيخ “حسن الترابي” عن عمر يناهز الـ(84) عاماً، وهو ابن الشيخ “عبد الله الترابي” حفيد النحيلات والقاضي الشرعي والفقيه الذي حَفظ الترابي القرآن على يديه بجملة قراءات وتعلم “اللغة العربية”.
ومن بعد – كما تقول سيرة الراحل الكبير – كان له تفوقه الدراسي والعلمي في كل المراحل حتى نال إجازة القانون من كلية الخرطوم الجامعية في 1955م وحصل على الماجستير من جامعة أكسفورد ببريطانيا ودكتوراة الدولة من جامعة الـسوربون بفرنسا في عام 1964م.
“الترابي” السياسي والفقيه والمفكر الذي التحق بجماعة الأخوان المسلمين السودانية عند تأسيسها، أصبح بعد ثورة 21 أكتوبر 1964م التي كان له دوره الكبير فيها وهو الداعي إلى الديمقراطية، أصبح رمزاً من الرموز السياسية والمجتمعية والإسلامية المعروفة سودانياً وعالمياً، وبخاصة عندما صارت له اجتهاداته ومبادراته في الفكر والفقه، وهو رجل القانون الدولي المعني بكتابة الدستور وتقديم المشورة للآخرين في ذلك.
ونحن من فتحنا عيننا على العمل الإسلامي والسياسي في عهده الاكتوبري وإلى ساعة رحيله – رحمه الله – نشهد له بأنه رجل مبادرات ونجاحات على كل المستويات تقريباً.. وفي المجال السياسي والإسلامي بشكل خاص. وما يشار إليه ويذكر هنا كثير:
فالحركة الإسلامية التي كانت حركة سياسية مجتمعية ونخبوية انفتحت بعد ثورة أكتوبر تحت مسمى (جبهة الميثاق الإسلامي) وهو أمينها العام على الآخر، فانضمت إليها جماعات الطرق الصوفية وأنصار السنة المحمدية وغيرهم حتى كانت بعد الانتفاضة في 6 رجب – أبريل 1985 (الجبهة الإسلامية القومية) التي انفتحت على غير المسلمين أيضاً، وعلى الآخر في العالم الخارجي والإشارة هنا إلى جمهورية الصين وحزبها الشيوعي.
وبعد ثورة الإنقاذ الوطني في 30 يونيو 1989م كان الكثير الذي ينم عن الانفتاح والشراكة في رسم السياسات والمجاهدات، فقد كانت برامج الحوار القومي في مؤتمرات في قاعة الصداقة بالخرطوم وصولاً إلى (المؤتمر الشعبي العربي والإسلامي)، الذي كان نقطة تحول في العمل السياسي والإسلامي السوداني، فقد رفد ذلك مرحلة التغيير في نظام الحكم بالدعم الكبير، وهو الذي واجه ومنذ بداية انطلاقته بالممانعات الدولية والمقاطعات الاقتصادية.
“الترابي” عليه الرحمة كان رجل مبادرات ومواجهات بما هو أكرم وأحسن. فبعد عامين من التغيير – تقريباً – كان إحلال مجلس وطني (معين) لمجلس قيادة الثورة حتى تم قيام المجلس الوطني المنتخب بعد ذلك. وتلك كانت بداية التحول الديمقراطي الذي اكتمل بعد ذلك برئيس منتخب ومجلس تشريعي منتخب.
ومخاطبات الدكتور “الترابي” مع الآخر – غرباً وشرقاً ومحلياً لم تكن لتنقطع حتى رحلته إلى “الولايات المتحدة” و”كندا” التي زلزلت محاضراته فيها رموز الرأي هناك حتى كان حادث الاعتداء عليه بالضرب في “كندا”، والذي كاد أن يسكت صوته يومئذٍ لولا عناية الله.
فضلاً عن ذلك، كما قال السيد “مبارك الفاضل المهدي”، فإن الدكتور الراحل – عليه الرحمة – هو الزعيم السياسي الوحيد تقريباً الذي لم يمارس نشاطه من الخارج، وإنما مكث في الداخل ودفع ثمن بقائه (اعتقالات) وحجر منزلي. ولم يكن ذلك – كما هو معلوم – شراً كله وإنما كان فرصة للقراءة والكتابة والتجويد.
وعندما كانت الخصومة بينه ورفقاء دربه ومسيرته بعد قرارات الرابع من رمضان 1999م كان لحاقه وعمله المتواصل في مبادرة (الحوار الوطني والمجتمعي)، فقد كان الراحل – عليه الرحمة – وحتى ساعة رحيله معنياً بالوفاق الوطني وجمع الصف رغم معاندة ومشاكسة البعض في المؤتمر الشعبي.
إن قصة جهاد الشيخ “الترابي” وسيرته الإسلامية والفقهية والسياسية والفكرية تطول ولا يمكن حصرها في مثل هذا الحيز الضيق.. ولكن الإشارة إلى ذلك فيها ما يشير إلى أسباب انفعال الأعداد الكبيرة غير المسبوقة (تقريباً) برحيله.. وبخياره ووصيته وهو ابن العائلة الترابية ليدفن بمقابر (بري الشريف) حيث دفن وقبر عزيز، الراحل الدكتور “التجاني أبو جديري” الذي سبقه هناك بسنوات طويلة، فالراحل الشيخ وفِّي ومبادر لا تقعد به التقاليد.
من لحظة رحيله في مستشفى (رويال كير) بالسبت وإلى تأبينه مساء (الاثنين) كانت مقابر (بري الشريف) ومنطقة المنشية حيث كان يسكن الراحل تعج وتفيض بمئات الألوف من المعزين والمكلومين، الذين سرفوا الدموع والكلمات وسالت أقلامهم وألسنتهم ووسائل تعبيرهم بما يعبر عن ذلك وأكثر.. فهناك من بكى شعراً ونثراً وصوتاً. وعلى ذكر الصوت هذا فإن الصورة والصوت في الأجهزة المسموعة والمرئية والتعبير في الصحف لم ينقطع، بل تواصل وفاءً وعرفاناً وتجاوباً مع الحدث الكبير لا تستثنى من تلك الأجهزة الخارجية مسموعة ومقروءة ومشاهدة. ولا ننسى هنا الدبلوماسية التي لم تنس لـ”الترابي” دوره ومساهماته، وقد كان أشهر هؤلاء حضوراً الأخوة القطريون (دبلوماسيون وإعلاميون).
والجموع المعزية والمشيعة جمعت الكل شأن السودانيين في مثل هذه المناسبات والإسلاميين، فهناك من يقول إن التشييع الذي جمع فأوعى لم يحدث مثله منذ تشييع الزعيم “الأزهري” والفريق “الزبير محمد صالح “عليهما الرحمة.
لقد رحل الشيخ “الترابي” وفقده كبير وعظيم في هذا الظرف التاريخي الذي تمر به البلاد، ولن يفتقده الإسلاميون والإنقاذيون وحدهم، وإنما كل أهل السياسة والدعوة والفكر والقانون والدستور، وهو الذي كان له دوره في حوار (المائدة المستديرة) الخاص بمشكلة جنوب السودان والحرب.. هناك يومئذٍ وكان الهم الأول بعد الديمقراطية في ثورة الحادي والعشرين من أكتوبر 1964م.
وأثر فقده في المؤتمر الشعبي سيكون أكبر، وفي كل الأحوال ذلك أن شخصية الشيخ “الترابي” وحكمته وبعد نظره لن تعوض، ولا نملك إلا أن ندعو لخلفه (حزبياً) الشيخ “إبراهيم السنوسي” بالتوفيق وحسن الأداء، وقد كان الأقرب للشيخ “حسن”.
ألا رحم الله فقيدنا وحبيبنا الشيخ “الترابي” وأغدق على قبره من الرحمات والبركات ماهو أهل له، ونسأله تعالى حسن العزاء لأسرته الكبيرة والصغيرة والعالمية، وأن يلهمنا وإياهم الصبر – فالفقد كبير وعظيم – ولا حول ولا قوة إلا بالله.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية