كنت فجراً باسم النُّور دَنَا (2)
وعدتك- قارئي الكريم- أن أواصل الحديث عن الشاعر الفذّ غازي القصيبي الذي قال: (كثيراً ما تكون القصيدة الخالدة في الوقت نفسه مسرحية، أو ملحمة، أو رواية، أو فيلماً أو سيمفونية)، وتحدثت عن القصيدة المسرحية، والرواية والملحمة، والفيلم.. وسأتحدث معه وأسمع حديثه عن القصيدة “السيمفونية” وهي قصيدة (أحلام الفارس القديم) للشاعر المصري صلاح عبد الصبور!!
يقول غازي القصيبي: (كان صلاح عبد الصبور- بلا نزاع- رائداً من أعظم رواد التجديد في شعرنا المعاصر الحديث، ومع ذلك لم ينل ولم يتلق ما تلقاه زملاؤه الرواد من تصفيق.. لم ينل تلك الشهرة الجماهيرية الواسعة التي نالها نزار قباني، ولا حظي بذلك الإعجاب المتشنج الذي حظي به السياب.. ولا انفرد بقيادة مدرسة شعرية كما فعل أدونيس، ولا لقي من اهتمام الباحثين والنقاد ما لقاه البياتي.. لماذا؟ هناك سببان رئيسان– أحدهما يتعلق بالأسلوب والآخر يتعلق بالمضمون).
ثم يقول: (والقصيدة التي نحن بصددها هي من أجمل ما كتبه عبد الصبور على الإطلاق وهي، بالتأكيد، من أجمل القصائد العربية.. في هذه القصيدة ينجح عبد الصبور نجاحاً واضحاً في كل ما أراد أن يحققه في شعره.. الجمع بين جدّية المضمون وفنّية الشكل.. الجمع بين روح التراث ولغة العصر، المزاوجة بين القضايا الخاصة والقضايا العامة، والموسيقى المتصاعدة المتفجرة.. إن هذا النجاح لم يتكرر بالدرجة نفسها في أي من قصائده الأخرى أو مطوّلاته الشعرية).
ويضع القصيبي سؤالين اثنين في هذه القصيدة “السيمفونية” هما: ما معنى الحب؟ وما معنى مرور الزمن؟ ومن هذين السؤالين تنبثق عشرات الأسئلة التي لا اعتقد أن أي إنسان قد أفلت من قبضتها خلال فترة من حياته:
هل يستطيع الحب أن يحقق لنا السعادة؟ هل نستطيع أن نحتمي في ظل الحب من الزمان ومآسيه والمكان ومشاكله؟ هل نستطيع أن نضمن بقاء الحب؟ هل يستطيع الحبيبان أن يستغنيا بحبهما عن العالم؟ هل تستطيع الحبيبة أن تمسح ما في العمر من كآبة وشقاء؟ كيف نشيخ؟ كيف تنتهي المثل والقيم التي كنا نؤمن بها؟ لماذا تزول البراءة عندما ندخل معارك العيش اليومي، وملاحم الصراع من أجل اللقمة؟ هل يمكن أن يعود الماضي؟ هل يستطيع الحب أن يعيد لنا الصبا ومثالية الصبا؟ ذلك الطفل القديم؟ ذلك الفارس القديم، هل يمكن أن يولد من جديد؟
هذه الأسئلة يجابهها صلاح عبد الصبور، وتأتي إجاباتها حُلوة من الغناء..
{ تبدأ القصيدة/السيمفونية بمشهد حالم يتحوّل فيه الحبيبان إلى غُصنين في شجرة يستقبلان الفصول الأربعة ويتمتعان بها حتى الثمالة:
لَو أننا كنّا كغُصنيْ شجرة
الشمسُ أرضعتْ عروقَنا معاً
والفجرُ رَوانا ندىً معاً
ثم اصطبغنا خُضرةً مزدهرة
حين استطلنا فاعتنقنا أذرُعا
وفي الربيع نكتسي ثيابَنا الملوّنة
وفي الخريف نخلعُ الثيابَ نعرى بدَنَا
ونستحمُّ في الشتاء يدفئنا حُنوُّنا!
{ ثم تنتقل القصيدة نقلة فتصوّر الحبيبين نجمتين في السماء:
لو أننا كُنّا نَجمتين جارتينْ
من شُرفةٍ واحدةٍ مَطلعُنا
في غيمةٍ واحدةٍ مَضجعُنا
نضيء للعشّاق وَحدهم وللمسافرينْ
نَحو ديارِ العشقِ والمحبّة
وحين يأفلُ الزمانُ يا حبيبتي
يُدركُنا الأفولْ..
وينطفئ غرامُنا الكبير بانطفائنا
يَبعثُنا الإلهُ في مآرب الجِنان دُرّتينْ
بين حصى كثيرْ..
وقَد يَرانا مَلكٌ إذ يعبر السبيلْ
فينحني حين نشدُّ عينَهُ إلى صفائنا
يَلقُطنا يَمسحُنا في ريشه
يعجبه بريقُنا
يرشقنا في المفَرق الطهورْ..
{ ثم يمضي الشاعر القصيبي مع الشاعر عبد الصبور يتحدثان عن الفارس القديم:
كنتُ أعيش في ربيع خالدٍ، أيَّ ربيعْ
وكنتُ إنْ بَكيتُ هَزّني البكاءْ
وكنتُ عندما أحسُّ بالرثاءْ
للبؤساء الضعفاءْ..
أودُّ لو أطعمتُهم من قلبيَ الوجيعْ
وكنتُ عندما أرى المحيَّرين الضائعينْ..
التائهينَ في الظلامْ..
أودُّ لو يحرقُني ضَياعُهم، أودُّ لو أُضيءْ
وكنتُ إنْ ضحكتُ صافياً، كأنني غديرْ..
يَفترُ عن ظلّ النجومِ وَجههُ الوضيءْ..
{ ثم ها هو القصيبي ينشدُ مع عبد الصبور:
مَاذا جَرى للفارس الهمامْ؟
انخلع القلبُ وولَّى هارباً بلا زِمامْ
وانكسرتْ قَوادمُ الأحلامْ
يا من يدلُّ خطوتي على طَريقِ الدمعةِ البَريئة
يا من يدلُّ ضحكتي على طريقِ الدمعةِ البريئة
لكَ السلامْ.. لكَ السلامْ
أُعطيكَ ما أعطتنيَ الدنيا من التجريب والمهارة
لقاءَ يومٍ واحدٍ من البَكَارة..
هل تشعر– أخي القارئ– أنك قرأت كلاماً يشبه هذا الكلام من قبل؟.. نعم، لذلك قال أبو الطيب:
ليتَ الحوادث باعَتنِي الذي أخَذتْ
مِني بِحلمي الذي أعطت وتجريبي..
وكما قال ناجي:
آه من يأخذ عُمري كُلّه
ويُعيد الطّفل والجَهل القديما..
ولكني.. لن اكتفي في هذا المقال بالحديث عن غازي القصيبي في ما اختار من قصائد.. أريد أن أفسح بقية مقالي هذا لاستعرض بعضاً من شعر القصيبي.. هاك بعضاً من وَرد حديقته.. حين يخاطب وَردَة:
يجُر خطاي الشوقُ نحوَكِ مُرغماً
كأني أسيرُ في ثياب مراهق..
وأرقَبُ جَمْرَ اللّونِ.. أحَسَبُ أنّهُ
تلَّون من جُرح يبيت معانقي
وأنشقُ نَفَح العِطر.. حتى كأنني
ألمُّ الشذى الغافي بكلِ الحدائقِ
وتتفجّرُ الأشواقُ.. أصرخُ في الهوى
إذا كنتُ محروقاً فكُن أنتَ حارِقي
أمدُّ يدي.. أبغي اقتطافَكِ إنّما
أحسُ يَدي لا تستجيبُ لخافِقي
يدي هذه.. للشعرِ.. والحربِ.. والنّدى
مَعاذ العُلا! ما هذه يَد سارقٍ
{ ثم انظر كيف رثى نزار قباني:
كَتبت اسمك فوق الغيمِ بالمطرِ
وبالجدائلِ.. في سبّورة القَمرْ
يا للوسيم الدمشقي الذي هَرِمت
دُنياه.. وهو على وَعد مع الصِغر
تجيئنا كلما بَاحت قُرنفلة
وكلّما اصطَبغ الرُّمان بالخَفَر
وكلّما وَشوَشت سمراء عَاشِقها
وكلّما اجتمعَ الأصحابُ للسهرِ
تجيئنا يا أمير الفلِّ مُتشحاً
بكلِّ ما في ضميرِ الفُلِّ من صُور
تَدري المليحُة أنّ العطرَ زائرُها
إذا أطلَّت من الشبّاكِ في السَحَر
تَركت في كلِّ دارٍ وَهَجَ زُنبقة
كأنّما أنتَ إعصار من الزَهَر
رسمت حتى سَلبت القُبحَ وَحشَتَه
فعاد كالحسنِ يُغري العَينَ بالنظرِ
كُلّ الصبايا جميلات.. وكلّ فَتى
هو العروسُ وكلّ اللّونِ للسمر
وبعد..
رحمك الله أيها الحديقة الإنسان