قانون التحكيم (2016م).. هل هو نكسة ومهدد حقيقي لنمو الاستثمار بالبلاد؟
إجماع على رفضه بعد أن ألغى نهائية حكم المحكمة المختصة بدعوى (البُطلان)
الخرطوم – عقيل أحمد ناعم
جدل كثيف حول القانون الجديد للتحكيم (2016) احتدم بين القانونيين والخبراء في مجال التحكيم ـ وهو مجال الثقافة فيه محدودة حتى بين كثير من القانونيين ـ ولم ينحصر الجدل فقط في الطريقة التي أجيز بها القانون ،والمسارات التي اتخذها، بداية من اللجان التي ناقشته في مرحلة التعديلات على قانون 2005 ،ومشروع قانون 2015م، وصولاً إلى البرلمان، ثم سحبه وإجازته عبر مرسوم جمهوري مؤقت، بعد أيام معدودات من اختتام دورة البرلمان، ولكن امتد الجدل حول بعض التعديلات، التي طرأت على قانون 2005 ، وحواها القانون الجديد، أهمها على الإطلاق ،المادة التي نصت على عدم نهائية قرار المحكمة المختصة بدعوى (البطلان)، ما يعني أن حكم هيئة التحكيم غير نهائي، وخاضع للاستئناف حتى أعلى درجات التقاضي، وهو ما وجد ما يشبه الإجماع ـ إن لم يكن إجماعاً كاملاً ـ من خبراء التحكيم والقانونيين في وصف هذه النقطة بأنها (نكسة) وهادمة لمبدأ التحكيم، الأمر الذي يشكل مخاطر كبيرة ،تُضاف إلى العوائق التي تواجه تطور ونمو الاستثمار في البلاد.
نشوء وتطور تشريعات التحكيم:
كان السودان حريصاً منذ 1900م على مواكبة الاهتمام العالمي والإقليمي المضطرد في مجال التحكيم، وقام بتطوير مواد التحكيم من مجرد مواد مُضمنة في أول تشريع للقضاء المدني في عام 1900م ،والذي تم تعديله في 1929م، قبل أن يصدر قانون الإجراءات المدنية 1974م، ثم قانون 1983م الساري حالياً، والذي حوى (18) مادة تنص على التحكيم، ونسبة لقصور وعدم مواكبة هذه المواد للتطور الحادث في التحكيم والتعاملات الدولية ، وفي الانفتاح الاقتصادي والاستثماري في السودان، وتماشياً مع الاتجاه العالمي بسن تشريعات منفصلة تختص بالتحكيم، برزت مبادرات عديدة لتعديل المواد الخاصة بالتحكيم ، أو إصدار قانون قائم بذاته، ولجأت المجهودات لسن قانون منفصل للتحكيم منذ العام 2000م ، بتشكيل لجنة بقرار من وزير العدل لإعداد مشروع قانون التحكيم. وفي 2004م بادر القاضي السابق بالمحكمة العليا، مولانا “حسين عوض أبو القاسم” ، بإعداد مسودة باسم (قانون التحكيم والتوفيق)، قدمها لوزارة العدل وللبرلمان. وفي 2005م شكل البرلمان لجنة من الجهات ذات الصلة لدراسة مسودة مولانا “أبو القاسم” ، وصلت لإعداد (مشروع قانون التحكيم لسنة 2005) المكون من (47) مادة، وبعدها تمت إجازته في جلسة البرلمان، بتاريخ 13 يونيو 2005م، وقع عليه رئيس الجمهورية في 26 يونيو 2005م. وهو القانون الذي ظل معمولاً به حتى لحظة إصدار قانون 2016م.
القانون منذ (لجنة دوسة) وحتى المرسوم المؤقت:
قانون التحكيم 2005م ومنذ صدوره اعتبره القانونيون والمهتمون بشأن التحكيم من مختلف المهن فتحاً قانونياً ، باعتباره تناول وبشيء من التفصيل كثيراً من النقاط التي كانت تسبب إشكالات، في ظل قواعد ومواد التحكيم السابقة، ولكن شأنه شأن كل القوانين ظهرت فيه ،من خلال التطبيق العملي ، بعض أوجه القصور، وعليه بدأت مساعٍ متعددة لتعديل القانون ، وصولاً لقرار وزير العدل السابق مولانا “محمد بشارة دوسة” في 2014م، بتشكيل لجنة برئاسة “د. إبراهيم محمد أحمد دريج” وعضوية ممثلين لمختلف الجهات المهتمة والمعنية بالقانون، بما فيها ممثل لوزارة العدل لدراسة القانون، وإجراء تعديلات عليه، وقد كانت مبررات التعديل هي عدم مواكبة القانون للتطور الحادث في التحكيم محلياً ودولياً، وعدم مواكبة التطور التجاري والاستثماري بالسودان، بجانب أن الصياغة كانت غير مضبوطة وغامضة في بعض النصوص، وتوصلت اللجنة إلى أن التعديلات تجاوزت نسبة (30%) من القانون، ما يعني وفقاً للعرف التشريعي ،بوزارة العدل، اللجوء لإلغاء القانون ،وإعداد مشروع قانون جديد ، وتم رفعه للوزير. واستمر عمل اللجنة وانتهت إلى إعداد مشروع قانون التحكيم لسنة 2016م، والذي حوى العديد من المواد التي يراها خبراء التحكيم إيجابية، ومن أهمها (النص على منح سلطة نظر دعوى البطلان لمحكمة الاستئناف، على أن تفصل خلال مدة أقصاها ثلاثة أشهر وأن يكون قرارها نهائياً). بعدها مضى مشروع القانون إلى البرلمان في خواتيم دورته الحالية، فكان رأي البرلمان إرجاء مناقشته إلى الدورة المقبلة، ولكن تم سحب المشروع ووُضع أمام رئيس الجمهورية، الذي وقّع عليه في 2 فبراير 2016م، ليصبح قانوناً نافذاً في انتظار، رأي البرلمان النهائي.
جدل (النهائية) وهدم مبدأ التحكيم
عبارة (يكون قرار المحكمة المختصة بنظر دعوى البطلان نهائياً) هي صاحبة الجدل الأكبر. فقد استمر عمل اللجنة في 2015م في عهد الوزير الحالي “د. عوض الحسن النور”. ويؤكد الخبير الإقليمي في مجال التحكيم وعضو لجنة التعديل ومدير المركز القومي للتحكيم ، “د. القصيمي صلاح الدين”، أن موقف وزير العدل الحالي كان واضحاً من خلال الحوار أنه يتجه نحو إلغاء كلمة (نهائي) من القانون، في ما يختص بقرار المحكمة المختصة، وقال لـ(المجهر) اعترضنا على هذا الإلغاء باعتبار أن نهائية حكم المحكمة المختصة بنظر دعوى (البطلان) من أميز ما جاء به قانون التحكيم لسنة 2005م”، وأوضح “القصيمي” أن التحكيم أساسه السرعة، وقال “بالتالي لابد أن يكون حكم المحكمة المختصة فيما يختص بدعوى البطلان نهائياً”، وأضاف “كنا نتفاخر أمام العالم أن لنا قانون تحكيم يراعي قانون (اليونسترال) العالمي، ولكن الآن هذا القانون الجديد أعادنا للوراء عشرات السنين، فهو نكسة حقيقية”. إلا أن وزارة العدل ومجلس الوزراء كان لهما رأي آخر، فقد تفاجأ أعضاء اللجنة بأن مجلس الوزراء أجاز قانون التحكيم 2015م ـ والذي تحول لاحقاً لقانون 2016م ـ وأودع البرلمان متضمناً سحب (كلمة نهائي) من القانون ، رغم الاتفاق القاطع داخل لجنة التعديل على إبقائها، وكذلك تضمن إلغاء جدول الأتعاب المتفق عليه في لجنة التعديل، مستعيضاً عنه بقيمة مالية ثابتة). من جهتها تبنت وزارة العدل موقفاً مدافعاً عن القانون، عبّر عنه الوزير “د. عوض الحسن النور” في سلسلة من المقالات نشرتها عدة صحف لا زالت متواصلة، إذ أكد الوزير أن القانون الجديد هو الأفضل ، وفي العمل القضائي هو الأسرع بتاً للقضايا، والأجود للأحكام. بعدها تفاجأ البرلمان نفسه بسحب مشروع القانون وتوقيع الرئيس عليه وفق مرسوم مؤقت، وهذا حسب ما ذكرت عضو لجنة التشريع والعدل بالبرلمان، “اعتدال عبد العال”، خلال مشاركتها في ورشة العمل حول قانون 2016م التي أقامها المركز العربي للتحكيم (الثلاثاء) الماضي، بـ(قاعة الشارقة). من جهته شدد “د. القصيمي” على أن وزارة العدل كان يجب عليها الالتزام برأي اللجنة، باعتبارها مشكلة من وزير العدل نفسه بعضوية عدد من خبراء التحكيم، وكبار القانونيين، وقال “الأسماء المشاركة في اللجنة خبرتها تفوق خبرة إدارة التشريع بوزارة العدل، في ما يختص بالتحكيم”. والأمر لا يقتصر على تجاوز رأي لجنة التعديل فقط، ففي اليوم الأول من شهر (فبراير) كانت نقابة المحامين تعقد بدارها ندوة لنقاش مشروع قانون التحكيم ،بحضور وزير العدل، وشهدت اعتراضاً واسعاً على المشروع الجديد ،وبالأخص في ما يلي سحب (نهائية) حكم المحكمة المختصة بقرار البطلان، وأبدى كثير من خبراء التحكيم استغرابهم من أنه في اللحظة التي يتم فيها النقاش بين الوزير والمشاركين في الندوة، كان مشروع القانون أمام رئيس الجمهورية، والذي وقع عليه في شكل مرسوم مؤقت. لتصدر نقابة المحامين من بعد بياناً اعتبرت فيه القانون الجديد مخالفاً لقانون التحكيم الدولي (اليونيسترال) ، في كثير من مواده الأمر الذي يضعف مراكز التحكيم في السودان، وأكد البيان أن قانون 2016م يهزم تماماً موقف السودان أمام المستثمرين الأجانب، الذين يبحثون عن الطمأنينة تجاه الآليات الوطنية،
سلب إرادة الأطراف.. وتهديد الاستثمار.. والوزير يرد
خبير التحكيم وعضو الهيئة الاستشارية العليا للمركز العربي للتحكيم مولانا “عثمان محمد الشريف” مضى في ذات الاتجاه المُحذِّر من خطورة إلغاء مبدأ نهائية حكم المحكمة المختصة بدعوى بطلان التحكيم، وقال خلال الندوة “نحن نريد نهائية حكم التحكيم وبغير هذا نكون حكمنا بنهاية التحكيم”، وتساءل متحسراً “كيف يمكن لمستثمر أن يُقدم على الاستثمار في السودان وهو يعلم أن حكم التحكيم عندنا ليس نهائياً؟!!”. وأكد أن مراكز التحكيم السودانية وخبراء التحكيم يسعون لإلغاء القانون، من أجل مصلحة البلد وليس جرياً وراء مصالحهم المالية، إلا أن وزير العدل أوضح في رده على بيان نقابة المحامين أن الاتفاقية الدولية للتحكيم لسنة 1965م أمام اللجنة الفنية لمجلس الوزراء، لتحديد هل يصادق عليها السودان أم يصادق بالتحفظات التي يراها الخبراء، ونبه الوزير إلى أن الاتفاقيات الدولية لها مخاطر، كما لها مزايا، مشيراً إلى أن التطبيقات العملية أظهرت خطورة التحكيم التجاري، كوسيلة قانونية لحماية المستثمر الأجنبي، من تبعات الاستثمارات الأجنبية المضرّة بالبيئة (العمليات الصناعية والتحويلية واستخراج الغاز والمعادن)، وقال في مقاله المنشور في الصحف أمس “عند عرض النزاعات على هيئات دولية ، كانت تقف دائماً إلى صف المستثمر الأجنبي ، تنفيذاً لشرط التحكيم، فوجدت الدول المضيفة نفسها عاجزة عن حماية مواطنيها، الذين تضرروا جسدياً وبيئياً من هذه الاستثمارات”، وأوضح أنه لم يكن أمام هذه الدول إلا السماح باستمرار المشروعات التي تحمل أضراراً على البلد، أو وقف تنفيذ العقد ودفع قيمة الشرط الجزائي المرتفعة. من جهته أمعن “د. القصيمي صلاح الدين” في الإيضاح حول مخاطر المحيقة بالاستثمار ، جراء قانون التحكيم الجديد ،الذي أفقد البلاد السرعة في الأحكام وأجبر المستثمر على المضي في المسار القضائي العادي، وقال “المستثمر لا يريد قضاء الدولة ، ويثق في المحكِّم الذي يختاره”، وأضاف “أن المستثمر يقبل بحكم التحكيم ولا يجوز للدولة التدخل إلا بما يمس النظام العام، كأن يُقر التحكيم تعاملاً ربوياً كمثال”، واعتبر “القصيمي” أن هذا الإجراء فيه سلب لإرادة الأطراف، ولمبدأ السرية الذي يحرص عليه المستثمر، وطالب بضرورة اعتماد وتطبيق قانون (اليونسترال) المطبق في 150 دولة. بالمقابل يلفت وزير العدل “د. عوض الحسن” الانتباه لما يرى أنها جوانب سلبية أخرى، تتعلق بإرادة الأطراف وبمخالفة النظام العام للدولة، متمثلة في ما قال إنها التوجهات الحديثة التي تم تبنيها في مجال التحكيم الوطني والدولي ، والتي أصبحت تفرض على الدولة المضيفة للاستثمارات الأجنبية ، العديد من المفاهيم والقيم المخالفة للنظام العام فيها، وقال “من هذه التوجهات مبدأ حرية الإرادة المفرط في التحكيم، أو القانون الواجب التطبيق أو لجنسية أعضاء هيئة التحكيم”، ولفت أيضاً إلى سلبية التوجه ، المتمثل في تبني مفهوم النظام العام الدولي وتفسيره وفقاً لمصالح وقيم الدول المتقدمة، دون بقية دول العالم. وأشار الوزير إلى ضرورة دراسة الأجهزة العدلية، للاتفاقيات المتعلقة بالتحكيم ،الدولية والإقليمية ،توطئة للمصادقة أو غيرها.
المجال الهندسي يتدخل
المجال الهندسي من أبرز المجالات المشتغلة في حقل التحكيم، الدكتور المهندس والأستاذ بجامعة الخرطوم وممثل الجمعية الهندسية “د. مدثر سليمان” أكد أن المتضرر الأول من قانون التحكيم الجديد هو الدولة، مشدداً على أن مشاكل التحكيم وتأثيرها على الاستثمار والاقتصاد، قد تفوق كل مشاكل الاقتصاد والاستثمار الأخرى. ومضت المهندس مستشار “نادية محمود” في ذات التوجه، وطالبت بضرورة إلغاء القانون الجديد، الذي يقر لا نهائية حكم التحكيم.
مأزق المرسوم المؤقت.. ورأي عضو لجنة التشريع
إصدار القوانين بمراسيم مؤقتة إجراء دستوري، نصت عليه المادة 109 من الدستور الحالي، لكنها نصت على أن يكون إصدار المرسوم المؤقت في حالة عدم انعقاد الهيئة التشريعية، وأن يكون لأمر عاجل. “د. القصميي” يرى عدم وجود أمر عاجل يستدعي صدور القانون ، وعدّها مخالفة دستورية. عضو لجنة التشريع والعدل بالبرلمان ،”اعتدال عبد العال”، لها نفس الرأي بأنه لا ضرورة لإصدار القانون بمرسوم مؤقت، وقالت “هل هناك قصور لدرجة أن قانوناً بهذه الأهمية يصدر بمرسوم؟ وأن رأيي الخاص أنه ليس هناك ضرورة، فالتحكيم لم يتوقف والدنيا ما طارت”. ولكن حسب الدستور، فإن المرسوم المؤقت لا يجوز للبرلمان تعديله، فإما يجيزه جملةً هو أو يسقطه جملةً، وهو ما يرى كثيرون أنه يهدد بإجازة القانون ، باعتبار أن البرلمان تعود على إجازة كل ما يأتيه من رئاسة الجمهورية، إلا أن البرلمانية “اعتدال” دافعت عن البرلمان، مؤكدة أنه أسقط عدداً من المراسيم المؤقتة، وأوضحت أن مرسوم قانون التحكيم سيأتي للبرلمان في بداية الدورة، وقالت “إذا سكتنا على هذا المرسوم ولم نناقشه حتى نهاية الدورة ، يكون قد سقط تلقائياً”. وأشارت إلى أن الأمر ليس فيه حرج للبرلمان، باعتبار أنه لم يناقش القانون في السمات، ومن حق الجهاز التنفيذي سحبه، ومن حق الرئيس إصدار المراسيم لأنه شريك في التشريع وفق الدستور.
إجماع على إلغاء القانون وخطوات مجابهته
إجماع كبير ودون أي نشاز بين خبراء التحكيم والقانونيين على ضرورة إلغاء القانون ، والسعي لعدم إجازته في البرلمان، وتبدأ خطوات المجابهة برفع دعوى دستورية لإبطال القانون، بجانب تكوين لجنة للمناهضة والمجابهة من كافة المختصين لتشكيل رأي عام، وسط نواب البرلمان من خلال الاجتماع مع نواب الأغلبية (المؤتمر الوطني) ، ومع لجنة التشريع والعدل ورئيس البرلمان لتوضيح مخاطر قانون 2016م على الاقتصاد والاستثمار في السودان، وإقناعهم بضرورة إسقاط القانون عند عرضه في البرلمان في دورته الجديدة.
الدستورية والقضاء يتحفظان
الورشة كان حاضراً فيها عضو المحكمة الدستورية “د. محمد احمد الطاهر”، لكنه بمجرد فتح الفرص للتعليق على الأوراق ،اعتذر بلطف عن التعليق، واستأذن مغادراً القاعة، وهو ما فسره الحاضرون بحساسية موقفه كعضو بالمحكمة الدستورية. وقريباً من هذا الموقف عبّر عنه أحد أعضاء المحكمة العليا ، المشاركين في الورشة، مؤكداً أن القضاء والقضاة يتعذر عليهم التعليق من خلال ندوة على قانون نافذ، وقال “القاضي ينفذ القانون كما هو”، لكنه أكد ضرورة مثل هذه الورش في سد ثغرات القوانين، وقال “نأمل أن تخرج الورشة بتوصيات تضمن عدم ضياع مكتسبات قانون التحكيم”.