بعد.. ومسافة
“حسبو محمد عبد الرحمن”
مصطفى أبو العزائم
سيبقى السيد نائب رئيس الجمهورية الأستاذ “حسبو محمد عبد الرحمن” واحداً من أكثر الذين تولوا المسؤولية في مستوى نائب الرئيس، وقد ملأ المقعد – كما نقول – منذ لحظة اختياره لهذا المنصب، لأنه بدأ بما لم يبدأ به غيره.. لقد اختار الرجل أن ينقل مكتبه ونشاطه إلى ولايات دارفور، مؤكداً من خلال ذلك أن الوقوف على حجم المشاكل في أرض الواقع، هو المرتكز الأول والأساسي للحل.
نجح الرجل ما في ذلك شك، بل أصبح يشكل حضوراً موجباً في كل ساحات الفعل السياسي السوداني، والمشهد العام كمواطن سوداني مثقف وواعٍ وفاعل، رغم أن بعض الذين عملوا في “دارفور” من الفاقد السياسي المؤذي والمضر، حاولوا أن يقللوا من مقدار الناتج المتوقع من مشاركته، لكنه هزم كل تلك التخرصات الخرقاء التي لم يجرؤ أصحابها على البوح بها، وإن تداولوها همساً وسراً وحاولوا أن يمرروها ويروجوا لها عبر بعض الأقلام الصحفية المؤثرة.. لكن أصحاب الأقلام كانوا أوعى من أن يسمحوا للفاقد السياسي أو للطامعين في تمرير أجندة خاصة، باستخدامهم لذلك الغرض الدنيء.
السيد نائب رئيس الجمهورية الأستاذ “حسبو محمد عبد الرحمن” لم ألتق به إلا في المحافل العامة، وإن كان أول لقاء قريب بيننا داخل إحدى قاعات المحاكم، هو شاكٍ، وصاحبكم متهم – كالعادة – في إحدى قضايا النشر الصحفي قبل نحو سبع سنوات، وكنت متهماً بحكم مسؤوليتي الرسمية كرئيس للتحرير في نشر مادة صحفية، وكان الأستاذ “حسبو” وقتها مسؤولاً رفيعاً بوزارة الشؤون الإنسانية، وقد قضت المحكمة ببراءة المتهم إذ لم يكن هناك قصد، وتقبل الأستاذ “حسبو” وهو الشاكي قرار المحكمة دون أن يحتج أو يتذمر، أو يستأنف الحكم حتى.
في ذلك الوقت بدأت أرسم صورة ذهنية للرجل، ثم عرفته في السفر وهو نائب لرئيس الجمهورية، وقد رافقته في رحلة رسمية إلى “نيروبي” للمشاركة في إحدى قمم الإيقاد الرسمية، قبل خمسة أعوام، واقتربت من طريقته في محاورة الآخرين، وفهمه لآرائهم ووجهات نظرهم المختلفة، التي قد لا تتفق مع طرحه أو مع الطرح الحكومي العام، وأشهد له بأنه لم يكن من المتذمرين أو المنفعلين لحظة الاختلاف معه، عكس كثير من الذين يظنون أنهم أصحاب الرأي الصائب الوحيد، والفهم الذي لا مثيل له، وهم – للأسف الشديد – كثر بيننا، ليس في مجالات السياسة وحدها، بل في كل أنشطتنا الحياتية المختلفة.
في تلك الرحلة تحدثت للسيد نائب رئيس الجمهورية عن الآثار السالبة للحكم الفيدرالي، وأنه يكرس للجهوية التي تقود إلى الصراعات الاثنية أو العرقية في الإقليم الواحد، وأخذت أعدد في المثالب، وكان الرجل صبوراً، استمع إلى كل ما قلت، وقال لي إننا الآن ندرس في هذا الأمر، وأمامنا خيارات عديدة، مشيراً إلى أنه من أصحاب هذه الرؤية، وقال لي إن الأمر قد يستغرق وقتاً حتى يصل فيه الناس إلى رؤية شاملة يمكن أن يتفق عليها الجميع.
لم يطلب إليَّ السيد نائب الرئيس الأستاذ “حسبو محمد عبد الرحمن” نشر ما دار بيننا حول هذا الأمر الخطير المتصل بواحدة من أهم قضايا الحكم، كما لم يطلب إليَّ أن أمتنع عن النشر، وقد آثرت ألا أنشر ما دار بيننا حول هذا الموضوع، لأنه لم يكن في الأصل حواراً صحفياً، بل كان حواراً وطنياً خالصاً.. وقد حدث ما قال به الأستاذ “حسبو”، وتمت مراجعة الحكم الفيدرالي، وتم تعيين المسؤولين والولاة في ولايات غير التي جاءوا منها للتأكيد على أن الوطن واحد، لذلك يتم الدفع بالأستاذ “عبد الحميد موسى كاشا” وهو من أبناء “دارفور” إلى “النيل الأبيض،” وبالأستاذ “آدم جماع” وهو من “دارفور” أيضاً إلى “كسلا”.. وهكذا.
أجد نفسي ملزماً بأن أشيد بجهود وحركة السيد نائب رئيس الجمهورية، ووعيه السياسي العام، وفهمه العميق لتركيبة السودان المعقدة في السياسة والمجتمع، وطريقة تعامله مع الأحداث، وقدرته على التخاطب مع الناس بصفته رجلاً سودانياً خالصاً، يتعالى فوق المناطقية والجهوية والقبلية.