مفكرة الأسبوع
الحلقة الثالثة
آه يا بغداد (3)
رحلة في الأشواك والألغام
في الكويت: طال عمرك إحنا دول الضد
د. مصطفى عثمان إسماعيل
الثاني من أغسطس من صيف 1990م – ذلك اليوم المشؤوم في تاريخ الأمة العربية، والذي قضى على حلم الوحدة العربية والأمن القومي العربي، في ذاك اليوم استولى الجيش العراقي على “الكويت” وأعلنها المحافظة رقم (19) وغيِّر أسماء الشوارع والمنشآت كما غيِّر اسم العاصمة “الكويت”.
اهتز العالم كله جراء هذا الاحتلال، في الطائف بـ”المملكة العربية السعودية” تشكلت الحكومة الكويتية في المنفى، حيث إقامة أمير دولة الكويت الشيخ “جابر الأحمد الصباح” وولي العهد الشيخ “سعد العبد الله الصباح”، واستمر الاحتلال العراقي للكويت فترة سبعة أشهر عصيبة، وانتهى بتحرير الكويت في 26 فبراير 1991م.
أثناء احتلال العراق للكويت انقسم الرأي العام في السودان مثلما حدث في الشارع العربي، خلط الناس بين رفض دخول القوات الأجنبية واحتلال الكويت. البعض سار مع خط “العراق” بحكم انتماءاتهم الحزبية، والبعض الآخر رفض الغزو وأظهر انحيازه ودعمه للكويت. فالرأي العام العربي أضحى في تخبط وانقسام ولم تكن المواقف الرسمية بأفضل منه من حيث الضبابية والتشتت. كنت حينها أميناً عاماً للصداقة الشعبية، وبحكم مرجعيتي الإسلامية ونشاطي في المنظمات الخيرية والطلابية الإسلامية الإقليمية والعالمية.. كنت وثيق الصلة بالكويتيين ومنظماتهم الإسلامية النشطة في العمل الإنساني ودعم القضية الفلسطينية. بالتنسيق مع جمعية الأخوة السودانية الكويتية التي كان معظم أعضائها من الذين عملوا بـ”الكويت” والتي لعبت دوراً مهماً في ذلك الوقت استقبلنا العديد من الوفود الشعبية الكويتية، واستقبلنا وفد الاتحاد الوطني لطلبة “الكويت”، كما أورد ذلك سفير الكويت لدى السودان وقتئذٍ الراحل “عبد الله السريع” الذي كان يلقب بـ”عبد الله جوبا” في كتابه (كنت سفيراً لدى السودان) سرد فيه الأحداث وقت الغزو، وذكر أولئك الذين وقفوا مع “الكويت”، وفصّل في تلك المواقف التي قمنا بها دعماً للكويت.
رغم أن العلاقات السودانية الكويتية كانت شبه متوقفة لا زيارات رسمية، لا تبادلات تجارية لا عمالة سودانية، إلا أنني أشهد للشيخ “صباح” وزير الخارجية آنذاك أن علاقتنا الاجتماعية لم تنقطع أبداً. في إحدى المرات كنت في “نيويورك” للمشاركة في دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة صباح يوم في منزل سفيرنا “الفاتح عروة”، فاتصل بي الشيخ: صباح:: وين إنت؟ رديت له التحية وقلت له: في منزل سفيرنا “الفاتح عروة”، قال: إنت فطرت، قلت: لا قال: خد السفير معك وتعال أفطر معي. ذهبت ومعي الأخ السفير “الفاتح”، وبعد الإفطار تحدثنا طويلاً عن العلاقات بين البلدين وما وصلت إليه، ومهمتنا أن نعيد هذه العلاقات إلى وضعها الطبيعي.. من تلك الجلسة جاءت فكرة زيارتي للكويت. قلت للشيخ “صباح” إنني أحس بالجرح الذي يحس به الشعب الكويتي، ولا أريد بزيارتي أن أنكأ هذا الجرح، لكن الشيخ “صباح” أصر على زيارتي لـ”الكويت”، عدت للخرطوم وبدأنا نحضر للزيارة، وفي هذه الأثناء زار وزير خارجية “تونس” و”الكويت”، فقامت عليه القيامة من قبل الإعلام الكويتي للحد الذي فكر فيه أن يقطع الزيارة ويعود. في هذه الأجواء فكرنا في تأجيل الزيارة، إلا أن شيخ “صباح” كان حريصاً على إتمامها في وقتها.
بعد الغزو سحبت “الكويت” سفراءها من الدول التي صنفتها بأنها دعمت موقف “العراق” ولم تدعم موقف “الكويت”، وكانت هذه الدول تُناَدَى بـ(دول الضد) كان على رأسها السودان، اليمن، الأردن، ومنظمة التحرير الفلسطينية، ورفضت استقبال سفراء هذه الدول الذين غادروا “الكويت” أثناء الغزو.
في ظل هذه الأوضاع توكلت على الله وغادرت إلى “الكويت” متوقعاً هجمة إعلامية شرسة من الإعلام الكويتي.
وصلت مطار الكويت واستقبلت من قبل المراسم الأميرية وأفراد السفارة، وكان على رأسهم القائم بالأعمال بالإنابة الوزير المفوض الأخ “عبد الله عمر” أفضل استقبال، رغم ارتفاع بعض الأصوات الإعلامية منددةً بالزيارة، لكن كان واضحاً أن الشيخ “صباح” قد بذل جهوداً كبيرة لتهيئة المناخ للزيارة، متخذاً من العلاقات الشعبية ومن مواقفي الشخصية أثناء الغزو مدخلاً لذلك.
بدأت لقاءاتي بالشيخ “صباح” وزير الخارجية، ثم سلمت رسالة خطية من الرئيس “البشير” لأمير الكويت آنذاك الشيخ “جابر الأحمد الصباح”، وكنت أعلم أن سمو ولي العهد الشيخ “سعد العبد الله” من أكثر المسؤولين الكويتيين حنقاً على دول الضد وخاصة السودان لما كان يأمله من موقف مختلف عن الذي اتخذه السودان، لذلك حاولت أن أتجنب لقاءه، لكن الشيخ “صباح” أصر على لقائي مع ولي العهد، وحدد الموعد بنفسه وذهب لحضور جلسة البرلمان الكويتي.
استنفرت كل ما لدي من تجارب وخبرات.. وكنت أعلم أن اللقاء بولي العهد محطة حاسمة في نجاح الزيارة أو فشلها. دخلت مبنى مجلس الوزراء الكويتي، وحسب ترتيبات المراسم جلست منتظراً، بعد فترة معقولة من الانتظار جاء الشيخ “سعد” والغضب على وجهه (رحمه الله رحمة واسعة) سلم سلاماً خافتاً وجلس وأشاح بوجهه عني، بقينا على هذا الحال في صمت لعدة دقائق، جمعت كل قواي وقطعت ذلك الصمت موجهاً الحديث للشيخ “سعد” بأقصى ما استطعت قائلاً: (طال عمرك أنحنا دول الضد)، فأطلق ضحكة مدوية والتفت إليّ قائلاً: إيش قلت؟ قلت: طال عمرك أنحنا دول الضد، مكرراً العبارة بذات النبرة، فكانت كلمة السحر التي أنقذت الموقف، قال لي: يا دكتور “مصطفى” السودانيون الذين نأمنهم على عيالنا وديارنا وأموالنا يأتون مع العراقيين يقاتلون مع الجيش العراقي أهل الكويت، واستمر رحمه الله في العتاب ثم سكت.. قلت طال عمرك نحن نبرأ من كل هذا ونعتذر عما فعله هؤلاء، لكن أقول لك وبصراحة إذا حدث لا قدر الله وغزا العراق الكويت مرة أخرى، فستجد هؤلاء السودانيين الذين عنيتهم يقومون بمثل ما قاموا به.. فأبدى دهشته لِما قلت، وبدا الغضب في وجهه قائلاً: ايش قلت، واصلت حديثي، طال عمرك وإذا غزا العراق السودان، فسيقاتل هؤلاء السودانيون مع الجيش العراقي، كيف أليست لديهم وطنية؟ قاطعني بهذا السؤال، قلت طال عمرك هؤلاء بعثيون استقروا في “العراق”، وتم تجنيدهم في الجيش العراقي، ويطلق عليهم (الفيلق السوداني) ولا علاقة لهم بالسودان، إلا في إطار النظرية القومية لـ(حزب البعث)، ولا سيطرة للحكومة السودانية على أفعالهم فكيف تحاسب على أفعالهم.
أخذ نفساً طويلاً وبدأ الهدوء يعود إليه وتفهم ما حدث وتغير وجهه وبدا ودوداً، وقال لي مرحباً بك يا دكتور “مصطفى” في الكويت نحن نعرف مواقفك، السفير “عبد الله السريع” حكا لنا كل شيء ونحن منذ اليوم ألغينا قائمة (دول الضد)، بدت الفرحة ظاهرة في وجوه الجانب الكويتي، وفوراً اتصل الأخ الوزير برئاسة مجلس الوزراء الكويتي بالشيخ “صباح” في البرلمان، وأبلغه بما أعلنه ولي العهد بإلغاء قائمة الضد، شيخ “صباح” وكأنه كان ينتظر هذا الإعلان، فأخبر أعضاء البرلمان بذلك، وجاءت عناوين الصحف الكويتية في صبيحة اليوم التالي: ولي العهد يبلغ وزير خارجية السودان بإلغاء قائمة دول الضد.
ودعني شيخ “صباح” بحرارة وعدت للخرطوم أحمد الله تعالى على هذا التوفيق والنجاح.. وهكذا بدأت مسيرة عودة العلاقات مع “الكويت” بعد انقطاع لأول مرة دام لأكثر من ثمان سنوات.
* وزير خارجية السودان الأسبق.. أستاذ العلوم السياسية – جامعة أفريقيا العالمية