رأي

بعد ومسافة

ثورة وقودها المال والحجارة !
مصطفى أبو العزائم
منذ انطلاقة الشرارة الأولى لما تعارفنا على تسميته بـ(ثورات الربيع العربي) كنت متوجساً من نتائجها المتوقعة، لذلك كنت ضد التغيير العنيف، خاصة في مصر، ويشهد لنا بذلك ما كتبناه حول هذا الأمر في (بعد ومسافة) أيام الثورة على الرئيس الأسبق “حسني مبارك”، بحسبان أن الرجل يعتبر من أبطال حرب أكتوبر 1973، أو حرب رمضان وكان قائداً لسلاح الجو المصري، لكن مع ذلك كنا نأمل في أن تحدث بعض التنازلات من قبل القيادات الحاكمة في مصر، وقبلها في تونس ثم ليبيا، وكنا نشير إلى أن عدم حدوث ذلك يقود حتماً إلى فوضى مدمرة في تلك الأقطار الشقيقة، تمتد آثارها إلى كل المنطقة، ولم تخيب نتائج الأحداث توقعاتنا.
ظهرت تحالفات معلنة وأخرى سرية لدعم ومساندة تلك الثورات، واستغل أصحاب الأجندة من ذوي الارتباطات بـ(النظام العالمي الجديد)، استغلوا الجماعات المتناحرة والثائرة لضرب الأنظمة القائمة، ثم استغلوها لاحقاً لضرب بعضها البعض، ولعل ليبيا هي النموذج الأمثل والحي لما ذهبنا إليه.
الآن نحن في شهر فبراير، وهو شهر التغيير في ليبيا عام 2011م الذي أطاحت فيه ثورة شعبية عارمة بنظام العقيد “معمر القذافي” الذي كان نموذجاً حقيقياً للاستبداد والديكتاتورية، ونموذجاً لأنظمة الرعب القائم على جنون الحاكم، وعدم إيمانه إلا بما يعتقد مع عدم اعترافه بكل (آخر) لا يوالي أو يبالي أو يسترشد بقيم ومفاهيم النظام حتى وإن كانت شاذة وغير مقبولة من العامة.
قابلت العقيد الراحل “معمر القذافي” عدة مرات، وسبق لي العيش في ليبيا لمدة أربع سنوات متصلة امتدت من العام 1989م وحتى العام 1992م، تعرفت خلالها على جماهيرية الخوف والرعب التي كنت أحمل لها في ذهني صورة مخالفة للواقع، إذ كنت أظن – وبعض الظن إثم – أنها واحدة من جنان الله في أرضه، لكنها كانت جحيماً لا يطيقه بشر سوي، الناس في ذلك الجحيم كالسوائم، تأكل وتشرب ولا تحلم، وأصبح كل من رفع صوته بغير الهتاف المقدس: (الفاتح.. ثورة شعبية.. فاتح) كل من رفع صوته بغير ذلك أو احتج، اعتبره “القذافي” وجماعته واحداً من الكلاب الضالة.
صورة العقيد “القذافي” في الواقع لا تختلف كثيراً عن الصورة التي يسوقها خصومه، وقد شهدت – وهذه شهادة للتاريخ – في رحلة إلى “طرابلس” كنت خلالها ضمن وفد رئاسي، ونحن داخل مقر سُكْنَى إقامة العقيد “القذافي” في (باب العزيزية)، شهدت السيد رئيس الجمهورية المشير “عمر حسن أحمد البشير” يحتد في الحديث مع رئيس جهاز أمن النظام الليبي “عبد الله السنوسي”، وبحضور العقيد “القذافي”، بسبب نتائج محاولة غزو مدينة “أم درمان” من قبل حركة العدل والمساواة عام 2008م، وقد ضم الوفد الرئاسي – وقتها – عدداً من المسؤولين السودانيين، ولم ينبس العقيد الليبي ببنت شفة كما يقولون، بما يؤكد إدارته ورعايته لذلك الحدث المؤسف.
بلادنا تضررت كثيراً من العقيد الراحل، وتمددت أحلامه عبر الحدود في محاولة للهيمنة الكاملة على كل المنطقة، وكان الداعم الأكبر للمعارضة إبان حكم الرئيس الراحل “جعفر محمد نميري” – رحمه الله – بل كان الداعم الرئيس لكل الحركات المسلحة، وكانت الأموال الليبية هي أساس حركة “قرنق” بعد أن استعان العقيد “القذافي” بصديقه الحميم “مانغستو هايلي مريام” العدو الآخر لنظام الرئيس “نميري،” الذي جعل من الأراضي الإثيوبية منصة لانطلاقة التمرد المسلح.
نحن الآن في شهر فبراير الذي تمر فيه الذكرى الخامسة للثورة الليبية التي حملت اسم ثورة 17 فبراير، لكنها لم تكن الثورة الأولى التي حملت هذا الاسم، فقد سبقتها انتفاضة شعبية عارمة في ذات اليوم من العام 1987م بمدينة “بنغازي” – في عيد المولد النبوي الشريف عام 1407 هـ – حكمت فيها أجهزة النظام بالإعدام على تسعة من الشباب الليبي، وقد تم نقل مشهد الإعدام عن طريق التلفزيون الليبي وسط هتافات هستيرية لزبانية النظام، تتوعد معارضيه بذات المصير.
.. و.. يا سبحان الله.. ظللت أتابع قناة تلفزيونية مؤيدة للنظام المباد في ليبيا، تحمل اسم وشعار (الجماهيرية) وتعتبر صوتاً لأشباح الماضي الذي حكم ليبيا منذ سبتمبر 1969م وحتى نهاية العقيد قتلاً على أيدي معارضيه عام 2011م، ظللت أتابع هذه القناة مثلما أتابع قنوات معارضة كثيرة لأنظمة الحكم في بلادها، ووجدت نفسي أردد في دواخلي بما بدأت به هذه الفقرة: (يا سبحان الله).. والسبب أن هذه القناة أخذت تستجدي مشاهديها من الثوار الشرفاء بأن يمدوا لها يد العون حتى تتمكن من مواصلة البث والإرسال.. لقد نفد المال وبارت الفكرة.. وطارت السكرة.
ليت كل الديكتاتوريين يعون الدرس.. ولكن.. ما أكثر العبر.. وما أقل الاعتبار.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية