حوارات

الخبير الاقتصادي "د. عز الدين إبراهيم" يحلل الواقع الاقتصادي لـ(المجهر)

لولا اتفاق جوبا والخرطوم الأخير لتوقف الجنوب عن إنتاج النفط
تعداد السودان (40) مليون وصادراته (3) مليارات… ونعاني من عجز يبلغ (5) مليارات دولار
تمسكنا بـ(السودان سلة غذاء العالم) وأهملنا شروطها..
لماذا لا نتجه للصناعة وسعر الهاتف يساوي سعر (4) خراف
حوار – محمد إبراهيم الحاج
كثير من القضايا الاقتصادية الشائكة الآن تؤرق الحكومة والشعب على السواء، قضايا يصل بعضها إلى معيشة الناس وتؤثر فيهم بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وربما لأن كثرة هذه القضايا وتعددها وتشابكها وارتباطها بمصالح الناس تحتاج إلى كثير من القراءات السليمة والتخطيط السليم الذي يسبق أي مشاريع عامة كانت أو خاصة.
(المجهر) حاورت الخبير الاقتصادي “د. عز الدين إبراهيم” وزير الدولة بالمالية الأسبق ورئيس اللجنة الاقتصادية ، بالمجلس الوطني السابق ، والخبير الاقتصادي بصندوق النقد الدولي، وطرحت عليه بعض القضايا الاقتصادية،  التي سيطرت على معظم الأخبار خلال اليومين السابقين، ومنها الاتفاق الذي أبرمته الحكومة أمس الأول مع حكومة الجنوب، بالإضافة إلى سياسات بنك السودان في ضخ مزيد من الأموال لبعض البنوك التجارية ، وسياسة تحرير سعر الصرف، فإلى مضابط الحوار.

{ بداية “د. عز الدين” ما هو رأيك في توقيع الاتفاق التاريخي أمس الأول بين “الخرطوم” و”جوبا”، والذي قضى بمد محطة كهرباء (كوستي أم دباكر) بخام النفط من حقول (عدارييل) ، لإنتاج الكهرباء ، بجانب مد شركة مصفاة الخرطوم بالخام؟
 – الاتفاق له أسباب موضوعية، فقد حدث هبوط في أسعار البترول في العالم، وأصبح سعر جوال البرنت (30) جنيهاً ، وهو السعر التأهيلي الذي بموجبه تكون الأسعار أعلى أو أقل، وبترول الجنوب الذي يأتي من (عدارييل) ، يقل عنها بحوالي 13 دولاراً ،  لأنه نوعية منخفضة وفيه (شمع) كتير، بينما بترول مزيج النيل،  الذي يأتي من ولاية الوحدة أعلى جودة ، ولكن إنتاجه متوقف، ونحن نريد من الجنوب رسوماً تبلغ (24) دولاراً للبرميل الواحد، وبهذا فإن العملية (خسرانة) بالنسبة للجنوب، والحل الواقعي يكمن في تخفيض الرسوم، والاتفاق الذي وصلنا  اليه  هو بترول عيني يحول لمحطات الكهرباء . وده اتفاق توافقي لإنقاذ واقع معلوم سلفاً، ورغم هذا الاتفاق يظل التساؤل  هو  هل سوف يستمر بترول الجنوب أم سوف يتوقف؟
{ ولكن سعر 17 دولاراً لا يغطي حتى كلفة عبور النفط بالنسبة للجنوب؟
– نعم لا يغطي الكلفة.. وهناك تكاليف إضافية للمهندسين الذين يعملون في الخلاء ويحتاجون إلى تحويل أموال للمعيشة، والشركات التي تعمل في هذا البترول ليست جمعيات خيرية، وحكومة الجنوب اضطرت في شهر (سبتمبر) لإيقاف ضخ البترول، وهي تعرف سلفاً أن الجنوب لن يستطيع سداد ديونه إلا إذا تحسن سعر البترول، وما اتفق عليه يعتبر حلاً واقعياً،  وبه إنقاذ ما يمكن إنقاذه.
 { هل لهذا الانخفاض تأثيرات سياسية وخاصة على الحركات المسلحة؟
–    نعم المتمردون كانوا يعتمدون على الجنوب في التمويل، و(98%) من إيرادات دولة الجنوب تعتمد على البترول، ولهذا كان من الطبيعي أن تقل مساندة دولة الجنوب لتلك الحركات، وأنا مؤمن أن الشعب السوداني فيه ناس ناضجين يستطيعون فهم الحقائق، ولهذا يجب أن لا نتخيلها فقط، وآثار الهبوط الذي حدث للبترول أحدث آثاراً في كل المنطقة، ودول الخليج العربي أيضاً تنبهت لهذا الأمر ، وبعضها استتبع ذلك بإجراءات قاسية جداً.. يجب أن نعلم أن الظروف تغيرت بشكل كبير في المنطقة ،عموماً . وإذا لم ينفصل الجنوب كانوا سيطلبون من الشمال أموالاً لتغطية العجز هناك بعد انخفاض سعر البترول في وقت كان يعول عليهم المجتمع الدولي كثيراً ، في أن لديهم بترول، ولكنهم الآن كانوا سيحملوننا عبئهم في حال لم ينفصل الجنوب، والآن في الجنوب (4) ملايين شخص في حالة مجاعة، وهم قادمون إلينا عبر الحدود، وهذا الأمر سوف يحدث آثاراً، ونحن بكرمنا لا نستطيع أن نفكر فيما سوف يحدث . وقد يدخل البلاد حوالى (3) ملايين أجنبي،  إذا تناول كل شخص منهم عدد 2 (رغيفة) في الوجبة الواحدة سوف نحتاج إلى (18) مليون (رغيفة) في اليوم الواحد، وهذا الأمر سوف يحدث ضغطاً كبيراً على المخابز، بالإضافة إلى ضغوط مماثلة في الخدمات العامة.
{ ما هي استفادة دولة الجنوب والسودان من هذا الاتفاق؟
–    حسب التوقعات سوف يستمر الجنوب في ضخ البترول بعد هذا الاتفاق، لأنه إذا كان غير ذلك فسوف يصدرونه بالخسارة، ووزير المالية قال نحن حنلتزم بالاتفاقية بسعر (24) دولاراً للبرميل، ولكن اتضح أن هذا السعر سيعود بالضرر على الطرفين.
{ وماذا سوف يستفيد السودان؟
–    سوف يستفيد في الكهرباء والمصفى ومشتقات البترول.
{ يعني ذلك أن حقوق السودان سوف تصله عينية بدلاً من نقدية؟
 نعم سوف نحصل على حقوقنا عينية، ولولا هذه الاتفاقية لتوقف ضخ البترول، وليس من العقل أن لا يستفيد الطرفان، في عام 2000 هبط سعر البرميل لأقل من هذا السعر، وبالتالي ليس غريباً أن ينزل سعر الجالون لأقل من (30) دولاراً، والأمر الذي تسبب في رفع سعر البترول مؤخراً هو موجة البرد العنيفة في أوروبا ، التي تعتمد  عليه في تشغيل سخاناتها، ولكن بعد انقشاع موجة البرد سوف يعود السعر إلى الهبوط، ويجب أن يعرف الناس أن المشاكل ليست كلها داخلية، ولكن هناك الكثير منها يتعلق بالخارج . وبعضها صدمات لا يد لنا فيها، ويجب على الاقتصاد المحلي أن يتكيف معها لأننا دولة صغيرة يجب أن نعلم أن سعر الذهب والبترول في نزول ونتكيف معه، وأي شخص عشان يعيش يجب أن يكون سريع التفاعل.
{ أعلن البنك المركزي أمس الأول ضخ مبلغ (117) مليون دولار وتم تسليمها لعدد (13) بنكاً تجارياً لتغذية حساباتها الخارجية بالنقد الأجنبي.. هل تعتقد أن هذا الإجراء من شأنه أن يخفض أسعار الدولار في السوق الموازي؟
–    اربط هذا الخبر بخبر آخر قبل أيام من أن هناك ودائع استلمها البنك المركزي، وبحسب الخبر فإن المبلغ تم تسليمه للبنوك لتغذية حساباتها الخارجية ، يعني منحها للبنوك المراسلة في الخارج، أي أنها لم تدخل السودان ، لأن هذه البنوك لديها مراسل صديق، وعندما تستورد يقول لبنك أدفع لصاحب البضاعة، والبنك المركزي وجه البنوك بتمويل الأشياء الضرورية مثل القمح، واستغلت ما لديها من علاقات للبنوك المراسلة، وأصبحت هناك ديون للمراسلين،  و(بنك السودان) أصبح يصحح أوضاع هذه البنوك وذهبت لتغذية حسابات المراسلين.
{ هل سوف يساعد هذا الإجراء في تخفيض سعر الصرف؟
–    الاقتصاد مال ووضع نفسي وثقة، وهذا الإجراء منح السودان نوعاً من الثقة، ولكن هذه الجرعة المالية جرعة واحدة، ويجب أن تتبعها جرعات إضافية، لأن الاقتصاد لا يتوقف والخطوة جيدة ولكنها ليست كافية.. نحن نصدر (3) مليارات دولار ووارداتنا 8 مليارات دولار، ولدينا فجوة تبلغ (5) مليارات دولار، ما الذي سوف تفعله هذه المائة دولار، وللخروج من هذه الأزمة يجب أن تكون لدينا حلول قصيرة وحلول طويلة الأجل، أما القصيرة فتكمن في الحلول التي يجريها بنك السودان الآن، ولكن يجب أن تكون هناك حلول طويلة الأجل تتمثل في زيادة الصادرات، ونحن الآن لا نصدر ما يكفي فتعداد السكان لدينا (40) مليون نسمة، في حين نجد أن دولة “تونس” الصغيرة مثلاً التي لا يتعدى سكانها (10) ملايين نسمة تصدر ماقيمته  (19) مليار دولار، وهذا يعني (انو نحن ما شغالين)  وكل الحاجات التي ننتجها نأكلها.
{ كيف نزيد الصادرات إذن؟
–    معظم صادراتنا زراعية ما عدا الذهب، وطبعا آلينا على أنفسنا أن نمد العرب والعجم بالأكل، الاقتصاديون في القرن التاسع عشر دارت بينهم مفارقة القيمة، التي تقارن بين الذهب والماء . وهي تقول إن الشخص مثلاً لا يمكن أن يعيش بدون مياه في نفس الوقت الذي ينخفض فيه سعرها، بينما الذهب غير متوفر ولكنه غالٍ، وتوصلوا إلى أن قيمة الشيء يقاس بالندرة، ومن حكمة ربنا أن جعل الغذاء رخيصاً . والشيء الضروري جداً مثل الهواء مجاناً . وهو قيمته منخفضة جداً، ونحن آلينا على أنفسنا أن ننتج سلع ضرورية، ولكنها منخفضة القيمة وهو الأمر الذي جاء في سبعينات القرن الماضي بعد أن حظر الملك فيصل البترول ،وهدد الغرب بتجويع العرب، وجاء وفد من صندوق الإنماء العربي، وقال إن السودان سلة غذاء العالم العربي، ولكن بشرط أن يضخ الخليجيون أموالهم ويأتون بالعمالة المصرية إلى البلاد، ثم جاءت (منظمة الفاو) وقالت إن السودان سلة غذاء العالم . وهذا اللقب منحنا دور، مسكنا في اللقب ونسينا الشروط، وهي الأموال الخليجية والعمالة المصرية، ولم نستطع حتى أن نوفر الأكل لأنفسنا ووجهنا إمكاناتنا القليلة للزراعة.
{ هل تعني أن الزراعة لا توفر نقداً جيداً للبلاد؟
–    نحن في السنة نصدر (5) ملايين خروف، وسعر الخروف لا يتعدى ألف جنيه.  وفي نصف السنة نصدر حوالي 2 مليون ونصف مثلاً، في الوقت الذي تصدر فيه (سامسونج) مثلاً (72) مليون جهاز هاتف محمول، وسعر الخروف الواحد في السنة وسعر الهاتف لا يقل عن (4) آلاف جنيه، وهذا الأمر يعني أن ما تصدره شركة هواتف محمولة يعادل (280) مليون خروف، ويعني ذلك أن جهاز (السامسونج) الواحد يعادل (4) خرفان، بالإضافة إلى سهولة شحنه وترحيله، يأتي هذا في وقت يكون لدينا خريجو الهندسة يعملون في (الركشات) وبعضهم يعاني من حالة بطالة، ونحن سمونا سلة غذاء العالم… وسلة باللغة العامية تعني (قفة)، فهل هناك شخص يسعده لقب (قفة)؟
{ حديثك هذا يعني عدم جدوى القطاع التقليدي ومن الأفضل الاتجاه للقطاع الصناعي؟
–    نحن فوتنا فرص كثيرة جداً في ستينيات القرن الماضي، وقتها كان مستوى السودان الاقتصادي أقوى من “كوريا”، ولكن “كوريا” اتجهت نحو التصنيع ونحن اتجهنا للزراعة . و(شوف كوريا هسه بتصنع شنو)، وأعتقد أن السياسة يجب أن تتجه نحو التصنيع، والزراعة في العالم الحديث من حولنا تحولت إلى صناعة أيضاً، فزراعة “هولندا” و”فرنسا” هي نوع من الصناعة، وأعتقد أننا في البرنامج الخماسي نحث الخطى بشكل جيد نحو التصنيع الزراعي، والزراعة عندنا الآن تعتمد على الأمطار، ومحاصيلنا كلها تعتمد على الأمطار مثل (الهشاب) و(السمسم) و(الصمغ) التي تتصف بالتقلب وعدم الثبات نتيجة الاحتباس الحراري وهو الأمر الذي يؤدي إلى تذبذب مستويات الإنتاج، ولهذا يجب أن نركز على صناعات مثل (الاسمنت) و(الحديد) و(السيراميك)، وهي صناعات لا تتأثر بالأمطار ونحتاج إلى ما يمكن تصديره بقيمة عالية، مثلاً كل الذهب الذي يبلغ (50) طناً ممكن نشيلو في طيارة واحدة ولو عايزين القروش البتجينا من الزراعة بنفس قيمة الذهب، فإننا نحتاج إلى عشرات القاطرات لنقلها.. الزراعة لدينا عشق وحب.
{ أخيراً “د. عز الدين” هل تعتقد أن تحرير سعر الصرف يمكن أن يساعد في استقراره؟
–    التفكير الآن ليس تحريره، ولكن تقليل الفجوة بين السعر الرسمي والسعر في السوق الموازي.
{ كيف؟
–    إذا كان السعر الرسمي حوالى (6) جنيهات والموازي (11) جنيه الرسمي تستورد به الأشياء الضرورية والحكومة لا تدفع أموالاً للمستوردين، ولكنها تشتري الدولار بالسعر الجاري وتمنحه للمستوردين بـ(6) جنيهات، فالحكومة لا تدفع أموالاً ولكنها تتحمل الفرق، وإذا حررت سوق الصرف يعني أنها سوف تدعم الأشياء الضرورية مثل (الأدوية) و(الجازولين) وهو ما سيحدث ربكة شديدة، والأفضل أن تسعى إلى تقليل الفجوة والعمل على إنزال السعر الموازي ليكون قريباً من السعر الرسمي.
{ هل من نصيحة أخيرة؟
–    أرجو أن تعمل الدولة على زيادة الصادرات والصادرات ليست فقط في السلع، فمن الممكن أن تكون لدينا صادرات في الخدمات الصحية والعلاجية، هناك دول كثيرة جداً تأتي وتتعالج في السودان مجاناً في مستشفيات مثل (مراكز غسيل الكلى) و(مستشفى الذرة) وغيرها، فلماذا لا نبيع تلك الخدمات للقادمين من الدول الأخرى، ونجعل علاج المواطنين السودانيين بالتأمين الصحي مثلاً، ولماذا لا نفتح مدارس لكثير من الدول التي تعاني من أزمات داخلية، وهذا الأمر سوف يعود علينا بعائد مادي كبير، بالإضافة إلى أننا لدينا مناطق سياحية متعددة وكثيرة جداً يمكن الاستفادة منها.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية