رأي

النشوف اخرتا

غريب جداً
سعد الدين ابراهيم
كان يعبر طرقات الحلة سارحاً يحصي غنم إبليس .. كان لا يتحدث إلا مع نفسه.. لا يرد حتى السلام.. لا ندري أصله ولا فصله وجدناه هكذا فجأة في الحلة.. نجم من نجومها.. لا تستطيع أن تسميه مجنوناً فهو لا يجئ بالغريب من الأشياء سوى أن تضبطه يحادث نفسه جهراً.. أو قل إنه يفكر بصوت مسموع ليس ثمة ما يشي بجنونه.. أصبح بالنسبة لنا الرجل غريب الأطوار ولكنه ليس عدوانياً سمعنا عنه روايات عديدة فمن قال إنه درس في جامعات في الخارج وكان عبقرياً ولكن أرهقته بالتكاليف فانسحب من الحياة.. ومن قال إنه صريع غانية من الغواني أججت فيه نيران الحب ثم غدرت به.. ومن قال إنه من الذين يخاوون الجن.. أين يأكل؟ .. أين يشرب؟ .. أين يسكن؟ لا أحد يعرف ..فقط نراه يتجول بين أزقة الحي بخطوات سريعة لا يمشي متمهلاً على الإطلاق ..السؤال الوحيد  الذي يجيب عليه يفرح أن يسألوه الساعة كم؟ كان يجيب على السؤال بحزم ربما لأنه يعرف أنهم يتراهنون عليه .. يذكر المعلومة رغم أنه لا يرتدي ساعة.
حيرني هذا الرجل المجهول المعروف.. حاولت الولوج إلى عوالمه قررت اختراقه وبذلت ما بذلت لكن لا حياة لمن تنادي.
شغلني أمره كثيراً لابد أن أعرف شيئاً عنه.. أخذت أتابعه من على البعد وأراقبه .. كم أرهقني من اللف في الشوارع دون جدوى  أخيراً استطعت  أن أظبطته وهو يدخل إلى بيت قديم مهجور ذلك الذي يسمونه خرابه.
 داخل الخرابة رتب له مكاناً .. يجلس عليه ثم يبدأ في التكلم مع أناس وهميين.. قررت أن أدون ما أسمعه منه.. وأحاول استخلص معلومات عبره.. فلم أستطع سوى أن أحصل على عبارات وأحاديث لا رابط بينها..
فقد دونت منه بالنص ما كان يقوله والذي تمثل في: سميرة تمشي المحطة تبيع المناديل، لكن ده زمن الطرحة بعد ما لبست التوب.. خلت مشي المحطة.. الله عليك يا سميرة .. صغيرونة وسميحة البت التقول جاية من السما .. (يصمت ثم يواصل)  سميرة قالوا طقاها دبيب نشف ريقا لا حول ولا قوة إلا بالله.. الفاتحة .. (يشيل الفاتحة مع أشخاص لا وجود لهم).. يجلس يشرب شاياً على ما اعتقد من كوب وهمي.. ثم يضحك ضحكاً متصلاً يتوقف.. ثم يبكي أو هو يدعي البكاء اكتفي حتى لا يحس بوجودي وانسحب..
أعاود مرة أخرى وأنا أحمل جهاز تسجيل التقاطه جيد .. وأسجل له عبارات أخرى مثل:-
عبد الجبار تستاهل يا عبد الجبار .. لوريك انكسر في سنار تستاهل.. (اوردولوب) أمانة ما وقع راجل .. عبد الجبار يا نتن يا وسخان وينهال بسباب هائل على عبد الجبار .. ثم يقف يضحك ضحكات حقيقية.. ثم يواصل مدينة بت الزين ست النسوان.. اللماك على عبد الجبار شنو؟يا سمحة .. يا صفرا وطويلة .. يابت الحسب والنسب.. (يصمت فترة ) ثم ينهض الفاتحة . الفاتحة يا مدينة بت الزين ..
ذات يوم راودتني فكرة أن أجابهه بهذه الأسماء فاعترضت طريقه وأخذت أردد الأسماء سميرة. عبد الجبار. مدينة بت الزين. هو يشيح بوجهه وأنا أردد الأسماء .. حتى احمرت عيناه وتقدم نحوي وأطبق يداه على رقبتي وأنا أبعدهما بصعوبة .. تجمع الناس وبالكاد أنقذوني من الموت!

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية