في الذكرى (131) استعادة لملامح وتداعيات معركة "تحرير الخرطوم"…
“المهدي” يوصي الأنصار بعدم قتل “غردون” و”الخرطوم” تأكل لحاء الأشجار
الرئيس البريطاني “غلاديستون”: (محاربون من أجل الحرية فلماذا نحاربهم؟)
تباطؤ حملة الإنقاذ البريطانية وتضييق الأنصار الحصار على “الخرطوم”
“كرومر”: مخاوف من تقدم “المهدي” نحو السويس إلى الحجاز
“شرشل”: في لحظة لعب فيها الشر همس أحدهم بكلمة “غردون”
المجهر- ميعاد مبارك
بعد قرن وثلاثة عقود وعام تعود إلى ذاكرة الأمة ملامح معركة “تحرير الخرطوم” التي قادها الإمام “محمد أحمد المهدي” وأتباعه من الأنصار الذين تجمعوا من كافة أصقاع البلاد ملبين ومصدقين بدعوته، ولعل شهادة العدو كانت أكبر شهادة على شجاعتهم التي حيرت المستعمر منذ بدايات الثورة المهدية، حيث كتب الكلونيل “ستيوارت” للحكومة البريطانية مع بداية الثورة المهدية واصفاً شجاعتهم وجسارة الأنصار الذين وصفهم في خطابه بالدراويش، قائلاً (من بين كافة مؤيدي المهدي يمثل الدراويش الأشد خطراً، لقد سمعت أن هجمتهم المستميتة الشرسة على تشكيل مربع مسلح يثير العجب)، وبالفعل زاد أتباع “المهدي” وتوالت الانتصارات والحكومة البريطانية مترددة بين دعم الحكومة المصرية أو التوصية بالانسحاب من السودان إلى أن أرسل “غردون باشا” إلى “الخرطوم” بمهمة واضحة وهي إجلاء الضباط والموظفين الأجانب من السودان ومن ثم الانسحاب، إلا أنه ظن في نفسه القدرة على تغيير مجرى التاريخ، فرابط في “الخرطوم” في محاولة لممارسة الضغوط علي بريطانيا لترسل حملة إنقاذ وأن يقضي على جيش المهدية الذي ما لبث يتكاثر ويضيق الخناق على “الخرطوم” حتى تم تحريرها وهزيمة الاحتلال فيما يسميه بعض المؤرخين بالاستقلال الأول للسودان والذي كان في (26) من يناير عام 1885م.
*محاربون من أجل الحرية
في الوقت الذي كانت الدعوة المهدية تستقطب الأتباع من كل أصقاع السودان ويشتد عودها، كانت بريطانيا تسير على تيارين أحدهما إمبريالي استعماري وآخر سمي بـ”أنصار بريطانيا الصغرى” والذي كانت تميل له سياسات الحكومة البريطانية وقتها والتي كانت مترددة في شأن التدخل في السودان، بل ردت على رسالة اللورد “كرومر” والذي كان يؤكد بأن الحكومة المصرية لا قوة لها على مقاومة مد “المهدي” ورجاله، ملمحاً بضرورة التدخل البريطاني، إلا أن حكومته كانت ترى أن الوجود المصري في “الخرطوم” أصبح غير عملي، جاء ردها كالتالي: (لا يمكننا إرسال قوات إنجليزية أو هندية، إذا استشرتم قدموا توصية بالتخلي عن السودان ضمن حدود معينة) ، ووصف “ويليام غلاديستون” رئيس الوزراء وقتها، الثورة المهدية قائلاً: (محاربون من أجل الحرية فلماذا نحاربهم؟)،
إلا أن اللورد “كرومر” ما لبث يبرق من مصر إلى بريطانيا بضرورة التدخل، وتوالت الأحداث وسير جيش بريطاني قوامه أربعون ألف جندي بقيادة “هكس باشا”، إلا أن الثورة المهدية ألحقت به هزيمة نكراء في موقعة “شيكان”عام 1883م، الأمر الذي عزز الموقف المنادي بعدم التدخل في السودان، والذي قد يكلف بريطانيا الكثير من الخسائر.
*غردون باشا
ما لبث “كرومر” يصدر مخاوفه من أن “المهدي” ينوي التقدم إلى قناة السويس ومنها إلى الحجاز، وأن التخلي عن “الخرطوم” يهدد الوجود البريطاني في مصر، فكان أن وقع الاختيار على “غردون باشا”، والذي وصفه رئيس الوزراء البريطاني السابق “وينستون تشرشل” في كتابه”حرب النهر”: (فكر الساسة البريطانيون كيف يمكنهم مساعدة الحكومة المصرية دون عناء تكاليف أو مجازفة وفي لحظة لعب فيها الشر، همس أحدهم بكلمة: “غردون”).
*انحراف “غردون” عن مسار مهمته
شكل اختيار “غردون” إحباطاً كبيراً للورد “كرومر” الذي رأى في شخص “غردون” ميلاً لعدم الانصياع للأوامر، بالإضافة لكونه مسيحياً متشدداً إلا أن الحكومة البريطانية أصرت على أن “غردون” هو الأنسب، وكان المقرر أن تقتصر مهمته على الانسحاب من “الخرطوم”، التي وصل إليها مباشراً مهامه في الثاني والعشرين من فبراير عام 1884، إلا أنه حاد عن مهمته كما هو متوقع، وأراد أن يستعيد زمام الأمور في السودان، مصدراً إيحاءات بأن الجيش البريطاني سيلحق به، وأبرق إلى كافة مناطق السودان مهدداً من أسماهم بالمصممين على التمرد والعصيان، وأضاف: (الحرب التي يشنها الأهالي الآن ستسبب الخراب لبلدكم والدمار لأنفسكم، والعاقل ولي نفسه).
*”إن كنت مهدياً جفف النيل”
كان “غردون” يعتقد في نفسه ويوليها ثقة قوية لدرجة أنه كان يعتقد بأنه تأتيه رسائل من السماء، وكما يبدو كان يضع نفسه موضع المنقذ المحارب، المكلف من السماء لمقاومة “المهدي”، وهذا يبدو من خلال خطابه لـ”المهدي” طالباً منه إن كان مهدياً حقيقياً أن يجفف النيل، ويعبر إليه، وكتب “ود النجومي” لـ”غردون” رسالة نصها: (أعلم أنني ود النجومي أمير أمراء الجيوش المهدية الملقب بسيف الله المسلول، جئتك الآن بجيوش لا قدرة لك على احتمالها، سلم تسلم، ولا تسل دماء العساكر بعنادك)،
فرد عليه “غردون” (قد أطلعت على خطابك وأنا لست مبالياً بك ولا بسيدك المهدي، خل عنك شقشقة اللسان والهذيان وجرب نفسك، والسلام).
*حملة الإنقاذ
واصلت قوات المهدية التقدم واستولت على إقليم “دارفور” ومن ثم “بحر الغزال” في أبريل من العام 1984، في تلك الأثناء بدأ الشارع العام البريطاني يتعاطف مع “غردون باشا” الذي وصلت الأخبار عن تحقيقه الكثير في “الخرطوم” من خلال زيادة المخزون الغذائي وتعزيز دفاعاتها، بالإضافة إلى رفع الروح المعنوية لقوات الحامية، والذي شكل بدوره ضغطاً كبيراً على الحكومة البريطانية، التي ماطلت بشدة في شأن إرسال الدعم إليه.
وفي أغسطس/ 1884م، تم اعتماد حملة الإنقاذ والأموال اللازمة لها من قبل البرلمان البريطاني، وبدأت التجمع بقيادة اللورد “ويسلي” في منطقة”حلفا”.
*حصار “الخرطوم”
تحرك “ود النجومي” نحو “الخرطوم” في 25 /يونيو 1884 على رأس جيش قوامه (4000) من الأنصار، ومع نهاية شهر (رمضان) تحرك “المهدي” من معسكره في “كردفان جنوب الأبيض”، متجهاً نحو الشمال الشرقي إلى “الخرطوم” في منطقة “أبو سعد” وبصحبته جيش مكون من (60) ألفاً من الأنصار الأشداء.
*الأنصار يضيقون الخناق على “الخرطوم”
وبعد أن فرغ “غردون” من إعداد دفاعاته ووضع المدينة في حالة استعداد للمعركة الدفاعية، جلس ينتظر ومرت الأسابيع وحملة الإنقاذ لم تأتِ، والأنصار يضيقون الخناق على المدينة أكثر وأكثر، وأصبحت الاتصالات أكثر صعوبةً وكادت تنقطع مع الخارج إلا من رسائل قليلة تأتي أو تخرج من المدينة، من حين لآخر، بعضها كان يبعث بها الميجور “هربرت كتشنر”، الذي كان يتعاون مع طابور الصحراء، في الجانب الاستخباراتي، ويعمل في مكان ما إلى الشمال في الصحراء مكوناً حلقة وصل بين “غردون” والعالم الخارجي، وفي هذه الأثناء شدد أنصار “المهدي” قبضتهم حول المدينة، وضيقوا عليها الخناق حتى أن الحملات التي كانت تخرج يومياً تقريباً من “الخرطوم” لجمع المواد الغذائية من الريف القريب، ما عادت تستطيع الخروج وانعدم الغذاء حتى بات الناس يأكلون لحاء الأشجار، و”غردون” مصر على موقفه وكله أمل في انتظار حملة الإنقاذ.
*قصف حملة الإنقاذ
كانت البواخر النيلية التي تحمل حملة الإنقاذ بقيادة “ويسلي” تعاني الأمرين، وهي تشق طريقها شمالاً عبر النهر، فقد تعرضت لقصف مستمر بنيران الأنصار.
*ساعة الصفر
في 25 /يناير 1885 أعلن “المهدي” ساعة الصفر وبدأ التحرك نحو “الخرطوم” المحاصرة، وبالفعل تحركت أعداد كبيرة من الأنصار عبر النيل متجهين نحو “الخرطوم”، وبحلول منتصف الليل كان أكثر من(50) ألف مقاتل قد عبروا إلى الأرض المكشوفة جنوب “الخرطوم”، وفي فجر (26) يناير تسلل الأنصار من الجانبين مجتازين خط الدفاع الأول، فتمكن الأنصار من التغلب بسهولة على المدافعين المنهكين بعد أن باغتوهم من الأمام والأجناب، ومن ثم اندفعوا داخل “الخرطوم”، فتمت السيطرة على جنود الحامية بسهولة، أما حراس قصر “غردون” فحاولوا التراجع والتمركز في محاولة يائسة للدفاع، لكن سرعان ما تمت السيطرة عليه.
*مقتل “غردون”
كانت أوامر “المهدي” واضحة فيما يلي الإبقاء على حياة “غردون”، وذلك ليصبح ورقة ضغط على الحكومة البريطانية من أجل الإفراج عن “عرابي” قائد الثورة في مصر حينها، إلا أن الأنصار قتلوه وفصلوا عنقه، ولم يعرف قاتل “غردون” ولم يذكر اسمه في أي وثيقة تاريخية، أما حملة الإنقاذ المنوط بها إنقاذ “غردون” تراجعت في الثامن والعشرين من (يناير) بعد أن شاهدت سفنها علم الاحتلال وقد أنزل من السارية، فآثروا التراجع وردوا عائدين، وهم لا يدرون إن كان “غردون” حياً أو ميتاً، ولو أنهم رجحوا أن يكون أسيراً.
*احتفالية ضئيلة
بالرغم من أن معركة تحرير “الخرطوم” تمثل الاستقلال الأول للسودان في العصر الحديث، إلا أن الاحتفال به يقتصر على جماعة الأنصار دون غيرهم من الفئات، بالرغم من أن الحدث يمثل نقطة مشرفة في التاريخ السودان، وهي أحق بالاحتفال والتمجيد من كافة أبناء السودان.