في ذكرى رحيل الشجن الأليم
تجانى حاج موسى
والله أيام يا زمان
ببكي وأتحسر عليك
وما بقول العشنا كان
وأرمي حبة لومي فيك
ولسه راجيك يا زمان
بي حبة الذكرى المعاي
عايشة في وجداني جوه
ولسه بتدغدغ حشاي
يمكن الحبيتو مرة
يلقى في كلمات غناي
فاصلة بتصحي المشاعر
تلك بعض أبيات الأغنية التي أهديتها للراحل الفنان المطرب “مصطفى سيد أحمد” ولحنها الموسيقار أستاذه “محمد سراج الدين”.. والله أيام يا زمان!! تذكرتها في ذكرى رحيله الذي قدر الله أن يكون مبكراً وهو في شرخ الصبا.. كانت منتصف السبعينيات فترة زاخرة بالإنتاج الثقافي على الأصعدة كافة وكنا في عنفوان الشباب، ولجنا عالم الغناء والشعر.. في أمسية شتوية بمعهد تدريب المعلمين والمعلمات بأم درمان، لبينا دعوة كريمة من أختي الأستاذة “منى عبد الرحيم” أستاذة مادة الدراما لطلاب وطالبات المعهد وهم وهن أساتذة المرحلة المتوسطة الذين تنتدبهم مدارسهم لذلك المعهد لمدة عامين للحصول على دبلوم.. هناك تعرفنا على “مصطفى”- يرحمه الله– وكنت في معية أستاذي الشاعر الكبير المرحوم “محمد بشير عتيق” الذي جمعتني به علاقة الأبوة والأستاذ والتلميذ.. شاركنا في أمسية شعرية ثقافية أمّها الطلبة والطالبات بذلك المعهد وكان الأستاذ الصديق “محمد سراج الدين” قد لحن لي (والله أيام يا زمان) وأهداها لـ”مصطفى” و(تباريح الهوى) وأهداها للفنان الصديق “محمد ميرغني” الذي كان يدرس الموسيقى في مدرسة تجاور مبنى المعهد من الناحية الجنوبية لقبة الإمام “المهدي”.
“سراج” لم يكن قد اقترن بـ”مدني”.. قرأنا أشعارنا وجاءت مشاركة “مصطفى”، تلك كانت المرة الأولى التي نستمع إليه.. صدح بأغنية “عتيق” التي غناها الراحل الفنان “رمضان حسن” (الأمان الأمان من فاتكات عيونك) وغنى للراحل “المغربي” (مرت الأيام كالخيال أحلام) تلك التي تغنى بها الراحل “عبد الدافع عثمان” فبكى “عتيق” من شدة الطرب وحلق الحضور في عوالم صوت “مصطفى” الجميل.. يومها قال “عتيق”: هذا صوت مطرب جديد سيكون له شأن، وحدث “مصطفى” برأيه هذا.. تلك الليلة كانت نقطة تحول لـ”مصطفى” لأنه اختار قبلها دراسة الدراما، غير أنه غير رأيه وتحول للغناء.. بعد تلك الأمسية ذهبنا به للإذاعة التي استقبلته بترحاب وسجل له الإعلامي الراحل “حمزة مصطفى الشفيع” حلقة كاملة في برنامجه الذي يعنى بالأصوات الجميلة الجديدة من الشباب.. غنى وأبدع في تلك الحلقة (غدار دموعك ما بتفيد.. والسمحة قالوا مرحلة.. والله أيام يا زمان)، وأغاني أخرى مسموعة، وانطلق صوته ليعانق محبي الطرب الأصيل وأهداه الصديق الشاعر “صلاح حاج سعيد” (الشجن الأليم) التي شارك بها في أمسية جديد الواعدين في مهرجان من مهرجانات الثقافة التي كانت تقام، وأحرز بها مركزاً متقدماً في المهرجان وهي من ألحان أستاذه “محمد سراج الدين” والتحق بمعهد الموسيقى فاحتفى به أساتذته وزملاؤه وصار من نجوم الشباك.
وعن قرب كان “مصطفى” مثقفاً من الطراز الأول، فناناً شاملاً، شاعراً وتشكيلياً ومؤلف قصة.. فناناً ملتزماً واعياً بدوره تجاه مجتمعه ووطنه.. كان مؤلفاً موسيقياً ممتازاً.. يدقق في اختيار نصوص الشعر الذي يتغنى به.. غزير الإنتاج لا سيما أيام مرضه بمدينة الدوحة بدولة قطر الشقيقة يعاني من الفشل الكلوي.. ظل ينتج غناءه الجميل في أحلك ظروف مرضه.. هناك تعرف بالشاعر الصديق “مدني النحلي” الذي ربطته علاقة صداقة به وجمعتهما مجموعة من الأغاني.. أول من تغنى بأغنيتي (تباريح الهوى) وكنا قد أعددناها وصديقي الموسيقار “محمد سراج الدين” للراحل “زيدان” الذي شاءت الأقدار أن لا يستمع للأغنية إلا من الإذاعة بصوت الفنان الصديق “محمد ميرغني” الذي طلب من “مصطفى” الإذن بغنائها.. غنى “مصطفى” من ألحان الفنان المغترب “عبد التواب عبد الله”، وغنى للشاعر “عبد الرحمن مكاوي” أغنية (من بعيد لي بعيد) من ألحان الموسيقار الصديق د. “يوسف السماني”، وأيضاً من كلمات “مكاوي” (تقول ليّ الفراق مكتوب زي أول جمعنا قدر) وهي أيضاً من ألحان د. “يوسف السماني” أداها الفنان الكبير د. “حمد الريح”.. هذه الأغنية كانت مفتاحاً لألحان عديدة لـ”مصطفى” بعد أن ذهبت بعض الألحان لمطربين.
سكن “مصطفى” بحي السجانة لسنوات، وهناك كوّن مع زملائه فرقة موسيقية أحبت غناءه وعكفت على تنفيذ ألحانه لتخرج للناس بصورة زاهية خلابة.. قبل ظهوره وهو معلم يسكن “ود سلفاب” بالجزيرة ارتبط بعلاقة إخاء وصداقة حميمة مع الشاعر الصديق “أزهري محمد علي” الذي كان يعمل بمصنع النسيج بالحصاحيصا وهناك أهداه بواكير أشعاره الغنائية الجميلة أشهرها (وضاحة)، وكذلك كان الصديق الشاعر “القدال” من أصدقائه الخلص أهداه عدداً من أشعاره الجميلة، والشاعر المهاجر دائماً “عبد القادر الكتيابي” أهداه أشعاراً رائعة منها (والله نحن مع الطيور الما تبعرف ليها خرطة ولا في إيدها جواز سفر)، وأظنها من ألحان الموسيقار المرحوم “بدر الدين عجاج”.. ولم تقتصر أغانيه على الشعر الدارجي، بل غنى فصيح الشعر وله العديد من الأغاني التي انتقاها من عيون الشعر لعدد من كبار شعراء الفصيح من بينهم الشاعر الكبير الراحل “أبو ذكرى” الذي مات بروسيا.
هذه التداعيات عن الفنان الراحل “مصطفى سيد أحمد” ليست دراسة بالمعنى العلمي، بل خربشات أكتبها في ذكرى فنان كبير خلد نفسه بفنه الأصيل الجميل ووضع بصمته في ساحة الغناء السوداني المعاصر.. بالطبع هنالك عدد من الأصدقاء الذين شاركوا في مشروع “مصطفى” الإبداعي لم ترد أسماؤهم فالذاكرة أصبحت خربة، وأرجو أن تتاح لي الفرصة لكتابة دراسة للنصوص التي تغنى بها.
في استقبالنا لجثمانه في ذلك الصباح الحزين ضاق مطار الخرطوم بالمستقبلين للجثمان، جلهم من محبيه من شباب الجامعات، ثبتوا بالدبوس قطعة قماش أسود رمزاً لحزنهم على الفقد الجلل وفاضت مآقيهم بالدمع الثخين.. يرحمك الله يا “مصطفى” وليجعل الله البركة في ذريتك.