الحكامة "الراجمة 24".. "الدنقر ضرب خشم السلاح دقّ"
يمثلن إرثاً تقليداً سودانياً يمتد إلى دول الجوار في غرب أفريقيا، وحالة ثقافة لا يمكن القفز عليها أو تجاوزها بحكم تأثيرهن البالغ والقوي على مجمل الأوضاع القبلية والسياسية، وحالتي الحرب والسلم و(المدح والذم) في غرب البلاد، خاصة دارفور.
إنهن ( الحكامات)، اللاتي يشكلن (لوبي) من الإعلام الشعبي، يمارس ضغطاً إيجابياً وسلبياً على أوجه الحياة كافة، ابتداءً من قضايا المرأة والقيم الاجتماعية من كرم وشجاعة ونجدة وإغاثة، وليس انتهاءً بالحرب والسلام. و(الحكامات) يتمتعن بمكانة سامقة في المجتمعات الريفية بغرب السودان (دارفور وكردفان)، حصلن عليها من خلال تدبيجهن وارتجالهن الأشعار والأقوال العامية التي تحث الرجال على الكر والثبات حين البأس وعدم الفرار من الأعداء.
وفي السياق لا بد من إيراد نماذج لأشعار الحكامات التي تحث على الإقدام و(الرمي لقدام)، وها هي إحداهن تقول:
الدنقر ضرب خشم السلاح دق
عبد الله أب سعد للحارة يوت تلقى
جزم قول البنات بستاهلو وح
وأخرى تمضي قدماً وتتوغل أكثر في إثارة (حمية) الرجل الشجاع المقدام الذي ترمز له بـ( أحمد ود حمد) فتقول:
أحمد ود حمد شدولو ملجومو
العقب الوراك اليوم خزاز نومو
موجعني حسر جهلو وشتات كومو
بلاغة الحرب
ولتسليط الضوء أكثر على هذه الشريحة المؤثرة على أجزاء كبيرة ومهمة من مجتمعاتنا، التقت (المجهر) الحكامة ذائعة الصيت “أم سنين حسين” والملقبة بـ(الراجمة 24)، ولأن (الراجمة 24) اُشتهرت بمواقفها البطولية القوية التي جعلتها تحتل مكانة اجتماعية لا تُضاهي تجاوزت بيئتها إلى كل السودان، بعد أن تجاوزت (أشعارها وأزجالها) مجتمعها القبلي الضيق إلى أفق أكثر اتساعاً (الوطن كله)، فصارت تتغنى له وتمجد بطولات جيشه وجنوده، وتحثهم على الثبات في مقارعة الأعداء ومجابهتهم.
وتتميز أشعار ” أم سنين حسين” بأنها مشحونة ومحتشدة بقيم الشجاعة والنزوع إلى مدح الأبطال والاحتفاء بالشجعان، وعندما تُطلق(الراجمة 24) أشعارها، فإنها تجعل الأعداء خارج مسرح العمليات، وعندما تستمع إليها تشعر بنفسك وكأنك في ميادين القتال تجول بين مفارز الجنود التي تخوض معارك طاحنة، إذ تبذل” أم سنين” لذلك لغة لها من البلاغة والبيان ما للفصحى، فهي تستخدم التشبيهات والكنايات والاستعارات المكنية والتصريحية، وتؤكد المدح بما يشبه الذم وعكسه بمهارة يحسدها عليها (سدنة اللغة وحراسها).
مثار النقع فوق رأس (الراجمة)
وعندما صعدت “الراجمة” منصة الاحتفال الذي نظمه منبر نساء الأحزاب السياسية في أعقاب تحرير مدينة (هجليج)، أبريل المنصرم، بزيها المزركش البهي وهي تتزين بالتمائم و(الحجبات)، وتلوح بعلم البلاد، ترمي لجموع النسوة أشعار النصر المؤزر، وتحكي شهاداتها عن الأبطال ومشاركتها الشخصية في معارك (هجليج)، إذ أنها من المجلد التي تبعد بضعة ( كيلو مترات) من مثار نقع المعركة الفاصلة، حيثُ ظلت تدفع بالجنود والفرسان إلى خوض أتون المعارك، وتبث فيهم معاني البسالة والشجاعة والصمود.
الدعوة للسلام على أسنة الرماح
قالت “أم سنين” لـ( المجهر) بسخرية: ” نسوان البلد دي (الخرطوم) ما يعرفن الحرب ولا شافنها”، في إشارة إلى دورها وقربها من منطقة الحدث، وأضافت: ” نحن لا ندعو إلى الحرب، لكننا لا نخشاها، والبحاربنا ما بستسلم ليهو، والبسلامنا بنمد ليهو أيدينا بيضاء ونسلامو”.
نالت “الراجمة 24” رضا وتقدير وإعجاب الحضور، حيثُ أحاطت بها النسوة وتوجنها بطلة للحرب والسلام، و(نقطن) على رأسها الأموال، وصفقن لأشعارها بحماس وقوة.
تمضي (الراجمة 24) قائلة: ” أنا أدعو للسلام وليس الحرب، لكن إذا وقعت الواقعة، فإنني لا أتوانى في تحريض الجنود والفرسان لخوض المعارك ببسالة وقوة حتى النهاية”، ودعت النساء للاهتمام ببث الحماس في الجيش الوطني، وتقديم كل ما يمكن أن يساعده على تحقيق النصر له.
هذا وشاركت “أم سنين” في الكثير من المناسبات الرسمية والقومية المتصلة بإحياء قيم الشجاعة والفروسية في معظم ولايات السودان، ما أكسبها صيتاً وذيوعاً وانتشاراً، وأُطلق عليها لقب “الراجمة 24” كناية على قدرة أشعارها الفائقة على المساعدة في حسم المعارك والقضاء على الأعداء.
الأرشيف الشفوي
إلى ذلك تحظى “الحكامات” خاصة في غربي البلاد بمكانة اجتماعية قل نظيرها، إذ يهابها ويخشاها أفراد القبيلة والمجتمع كافة ويخافون لسانها، وبالتالي يتقرب إليها رؤساء القبائل لتمدحهم فيذيعون بين الناس، هذا بجانب أن “الحكامات” يعتبرن أرشيفاً شفاهياً لحفظ التراث وسير الأبطال وتاريخ المعارك والغارات، ويروين سيرة الشهداء والموتى، ولعل الأشهر في ذلك ما روته إحداهن عن أبيها حيث قالت:
أنت يا أبوي أكأس الحنضل كان شموه أتبعثر
أنت كوكب شنقة في البطون اتحدر
أبوي في الحرب الأول
ما قبل أبوي وش الرجال أتقبل
أبوي أسد الكوكة على البداوة هضلل
وهكذا، فإن سيرة “الحكامات” لا تنتهي، حافلة بالعطاء، حافلة بالشعر، وحافلة بالحياة والموت.