من وحي الأخبار

كاريزما

قبل ثلاثة أعوام وكان  الوقت صباحاً؛ توجهت على تخوم التاسعة صباحاً لإكمال معاملة بوسط الخرطوم؛ جلست أقطع الوقت في انتظار (نده) اسمي لكي أخضع لعملية تقطيب لجيبي بدفع رسم ما وضريبة إجراء رسمي؛ المكان في صالته شاشة تلفاز صلبها أحدهم على قناة النيل الأزرق؛ برنامج صباحي لم يكن أحد ليأبه له لولا أنه كان عن تتبع حالة “محمود عبد العزيز” الصحية؛ كان حينها بالأردن يصارع وينازع؛ الضيف كان الناقد الفني “الزبير سعيد”؛ صحفي حقيقي وناقد ومحدث جيد. أثناء تتبعه بالشرح لمسيرة “الحوت” الفنية عبرت البرمجة إشارة عابرة بأن أمر الله قد نفذ وكان البث مباشراً.

يضطرب المذيع؛ ينهار سد الجلد والتماسك عن الضيف فينهار باكياً مثل مفجوع؛ ينتقل الأثر للصالة؛ تهدأ أصوات ملاججة هنا وضجر هناك؛ يلم شرطي كهل خطواته الفاترة؛ يجلس مطرقاً غافراً لتلاسن كان يتوسع بينه ومواطن؛  حول فعل أو معاملة؛ يرن صمت حزين؛ يتحلق الناس وقوفاً؛ ينفجر بعض الشباب بكاءً؛ انضممت لقافلة الحزن لكن بسكون، أمسح دمعي بطرف (الفايل)؛ خرجت بعدها للشارع وقد أنجزت أمري؛ شاب يكاد يمزق قميصه وهو يبكي على قارعة الطريق،  تضامن عفوي حول ضجة السوق والمتاجر لاستفتاء اقترع فيه الناس ببث غناء الفقيد؛ المتاجر، باعة المرطبات؛ الطريق وغبار الأمكنة، الريح الباردة يومها، كل بدا منزعج القسمات؛ كان “محمود” يطل من كل الزوايا صوتاً وموسيقى. 

أمس الأول احتشد إستاد المريخ حتى فاض عن سعته. شاهدت مجموعة صور جرى تداولها على نطاق واسع بوسائط التواصل الاجتماعي لحدث الذكرى الثالثة لرحيل الفنان الكبير “محمود عبد العزيز”؛ الإستاد الذي يعد الأكبر بين ملاعب البلاد وحسب المنقول من الفعالية وحجم المشاركة لا يكتظ هكذا ربما حتى في بعض مباريات القمة؛ لكن محبي “الحوت” وعشاق فنه فعلوها بالأمس؛ وحضر (الحواتة) من كل فج وصوب وهم جمع وفي لفكرته ومشروعه ولطالما كانوا الأميز في أكثر من مناسبة.
تحدث الناس كثيراً؛ عن المسيرة الفنية للفقيد ولم يتركوا شاردة أو واردة وتتبع الرواة سيرته في مراحل مختلفة من عمره؛ وقد لا أكون مخطئاً إن قلت إنه ورغم غيابه لا يزال رقماً لم يتخطاه كثير من أبناء جيله، أو من حضروا بعده ولا أظن أن أحداً سيفعل هذا قريباً. فمحمود امتلك موهبة فريدة وحاز كاريزما أهم ما فيها القبول العفوي الذي يناله دوماً وهو فوق هذا شخصية احتفظت بميزات الشخص العادي و(ود الحلة) رغم النجومية الكاملة والنمرة التي حازها فصنع هذا حالة فنان ببصمة خاصة في الفن وحضور أخص في الشارع العام.
الآلاف الذين تدافعوا لإستاد المريخ بالعرضة نبهوا الباحثين في عوالم المجتمع لتيار ليس هو من أهل السياسة أو الطائفية، لكنه تيار حيوي قوامه جمهرة الشباب والذين رسموا لوحة كيان خاص وتجمعاً يقوم الولاء فيه على حب أغاني وألحان الفقيد وقطعاً يحتوي ذلك على  ماهية الحب والود والتسامح والأخيرة مهم جداً أن يلتفت لها (الحواتة)، إذ يجب أن يكون مشروع تجمعهم قائماً على بعد التسامح، ولذا لا أرى مبرراً أحياناً لاعتراضات راتبة على أن يؤدي هذا الفلان أو ذاك أغاني الراحل؛ هذا إرث سوداني إنساني يجب أن يتم السماح بتداوله ما أمكن الأمر، ولذا فإن عليهم التخفف من بعض هذا الموقف إن كانوا للنصح يسمعون.
“محمود” كان حالة من التسامح.. فتسامحوا ووسعوا أمر هذا الحب ليكون مشروعاً موجباً.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية