النشوف اخرتا
الحوت الذهبي
سعد الدين ابراهيم
في منتصف ثمانينيات القرن الماضي وكنت متعاوناً مع الصحافة وأعمل بالتدريس في مدرسة الإنجيلية الثانوية للبنات بالخرطوم بحري، قرأت في إعلان عن حفل للفنان “محمود عبد العزيز”، فسألت بعض الطالبات عن هذا الفنان الذي لم أسمع به فتطوعت طالبة وقالت لي إنه فنان أسرتنا وسنقيم حفلاً يغني فيه الأسبوع القادم في بيتنا في بحري ودعتني إليه.. ذهبت وشاهدت واستمعت إليه.. لفت نظري بأدائه المتفرد لأغنية الحقيبة (جاهل ووديع مغرور).. تعرفت عليه وأشدت بحنجرته الذهبية، وبعدها بسنوات في لقاء مع العملاق “محمود أبو العزائم”- عليه رحمة الله- في مكتب الناشر الذي يخص ابنه “مصطفى” تسامرت معه وسألته عن رأيه في صوت “محمود” فأشاد لي بأدائه لأغاني الحقيبة فقلت له: (يعني ممكن تقول:
حلو الغناء في خشم محمود بدلاً عن خشم سيدو)، فوافقني فنشرت ذلك وأصبحت مقولة يستشهد بها الناس.
قبل سبع أو ثماني سنوات وكنت محكماً في مسابقة ميلاد الأغنيات في منطقة بحري، وكنا نستمع إلى المشاركين في مركز شباب بحري أيام كان يديره الأخ “أحمد الريس” الذي جعله موئلاً للفنانين والشعراء والملحنين كنا أعضاء اللجنة وبضعة أشخاص نستمع إلى المشاركين وكان ضمنهم “محمود عبد العزيز”.. ولما جاء دوره وبدأ الغناء، فجأة وكأنما انشقت الأرض حضر مئات الناس، بل كان المرضى في عنابر مستشفى بحري يتطلعون من البلكونة فقلت لهم: (هذا ساحر عديل وله كاريزما طاغية).. وأذكر في حفل له بالنادي العائلي، جيت وبشرت فيه مع مجموعة فتقدم لي وانحنى بأدب جم لعله تذكر أنني كنت من أوائل مستمعيه وتأثرت جداً بهذه التحية.
سألت سيد الغناء “محمد وردي”، فقال لي كلاماً عجباً وفيه نبوءة عجيبة.. قال لي: (هذا الولد فنان كبير وصوته متفرد أخشى أن لا يعيش طويلاً).. لا أدري لماذا قال “وردي” ذلك، وهو الآن بين يدي المولى له ما كسب وعليه ما اكتسب ولا يمكن أن أتطاول بالحديث عنه كذباً.. أذكر أيضاً أنني كنت امتطي عربه عائداً إلى البيت عند الثامنة مساء، فوجدت الناس يجرون فتخليت أن حدثاً جللاً قد وقع، ولما وصلت البيت وجدت أبنائي يخرجون عدوا ويتجهون إلى حوش العمدة فسألتهم ماذا حدث فواصلوا جريهم، فقط قالوا: (محمود.. محمود) فعرفت أن لديه حفلاً في حوش العمدة.. ولم أتمكن من الوقوف ومزاحمة الناس فعدت أدراجي إلى أن انتهى الحفل، فوجدت أن جموع الشباب والشابات منعت “محمود” من الخروج بعد نهاية الحفل ما اضطر البعض لحمل العربة الصالون التي يركبها عالياً حتى خرجوا به وبعد ساعات استطاعت العربة أن تهرب من الجموع.. واندهشت أيضاً من هذه الكاريزما الطاغية وهذا الحب العجيب.
أذكر في زواج أحد نجوم الفن من جيل الوسط وكان الحفل يؤمه عدد من كبار الفنانين.. وبينما كان أحد الفنانين الكبار العظام يغني إذا بالجمهور ينصرف بكلياته ليستقبل فناناً حضر لتوه، ما أدخل الفنان وأدخلنا في حرج شديد وكان الفنان هو “محمود عبد العزيز”.. بعده لم يستطع أحد الغناء لا قبل “محمود” ولا بعده.. وفي أحد الأعياد دعانا المخرج الراحل المقيم “عيسى تيراب” لحلقة وكان معي الموسيقار الجميل “صالح عركي”.. ولم يخبرنا بأن معنا “محمود”.. وكنا في انتظاره لأنه تأخر.. ولما سألناه عن إخفاء تلك الحقيقة قال: (كنت أتوقع أن لا يحضر.. لكنه حضر وفي الحلقة قال له المذيع: (هذا الصحفي- يقصدني- ينتقدك).. فقال له: (لا لم ينتقدني.. إنه يحبني من قبل أن أشتهر). وكانت الحلقة من أجمل ما يكون أضفى عليها بكاريزماه ألقاً، وخرجنا سعداء.. وتسامرنا معه طويلاً فإذا بنا أمام شاب حي.. خجول.. متواضع.. لا يرفع عينه ليحدق في الآخرين.
الكلام يطول، فقط أختمه بالقول إنه يجب دراسة ظاهرة “محمود” هذه من كل الجوانب الفنية والسياسية والاجتماعية.. وانتقاله من التمرد إلى التصوف ومن الغناء إلى المديح بجانب التمثيل.. بالإضافة إلى حسه الإنساني الشفيف.. ومزاجه المتقلب.. فقد كان قلقاً، لكنه قلق خلاق.. عليه رحمة الله.