الشاعر السوداني "عبد الرحيم أبوذكرى" حتى لا تنسدل عليه سدول النسيان
كامل عبد الماجد
لبيت في بدايات حقبة الستينيات دعوة عشاء أقامها الفنان الكبير “عبد الكريم الكابلي” بمنزله احتفاءً بصديقه الشاعر الكبير “محمد الفيتوري”، فسألت “الفيتوري” عن رأيه في الشعراء من أبناء جيلنا وكان قد برز منهم عصرئذ “محمد عبد الحي ومحمد المكي إبراهيم والنور عثمان أبكر”، فأجابني (يتقدم ركب شعراء جيلكم عبد الرحيم أبوذكرى).
عاصرت “أبوذكرى بجامعة الخرطوم منتصف حقبة الستينيات الماضية كما عاصرت من شعراء الجامعة في ذلك الزمان “محمد عبد الحي وعمر عبد الماجد وعلي عبد القيوم وسبدرات والأمين بلة وفضل الله محمد ومحمد سعيد دفع الله وكمال عووضة ومحمد تاج السر ومحجوب عباس وتيراب الشريف وفضيلي جماع وأحمد إبراهيم الطاهر وعبد الله جلاب وحسين حميدة وفاطمة بابكر والرضية آدم”.. رحلوا مبكراً إلى بارئهم عليهم الرحمة عبد الحي وتبعه أبوذكرى ثم علي عبد القيوم، وخبأت المهاجر البعيدة منذ زمان بعيد “جلاب وتيراب وفضيلي وفاطمة بابكر ومحجوب عباس والأمين بلة”، وهجر من تبقى منهم الشعر وأسدلوا حولهم السدول إلا لماماً وعصفت بمعظمهم شواغل الحياة.
كان أبوذكرى بجامعة الخرطوم مثل عصفور وديع فارق سربه وحط بوادٍ غريب يمشي منفرداً لا يبدأك بالحديث إن اقتحمت صمته ولا يمنحك من مخزون كلامه إلا النزر القليل، وكنت أرضى منه بالقليل، فقليله كان أعمق ما تسمع في يومك.
ترك جامعة الخرطوم عام 1966 وأكمل دراسته بجامعة موسكو وعاد عام 1973 بعد أن حـصل على الماجستير في الأدب الروسي ودبلوم الترجمة بدرجة الامتياز، ووقتها شغل “إسماعيل حاج موسى” منصب وزير الثقافة والإعلام، ولعله كان أصغر من اعتلى سلم الوزارة في البلاد، ومن حسناته التي يحفظها له التاريخ عمل على أن يتبوأ زملاؤه من النابغين في مجال الثقافة إدارة الوزارات، فجاء بالدكتور “محمد عبدالحي” مديراً لمصلحة الثقافة و”أبوذكرى” رئيساً لتحرير مجلة الثقافة السودانية و”عايدابي” لمجلة وازا، وكانت هذه الإصدارات ومعها مجلة الخرطوم بما ينشر فيها من مقالات وشعر تضاهي المجلات العربية مثل مجلة العربي الكويتية والدوحة القطرية التي تعاقب على رئاسة تحريرها أدباء بلادنا. كانت مناصب الثقافة في ذلك الزمان لا يعهد بها إلا للمرموقين في المجال الثقافي، فلا غرو إن أتى “إسماعيل حاج موسى” بالأديب الكبير “جمال محمد أحمد” أميناً عاماً لمجلس رعاية الثقافة والفنون، وقد حدثني “إسماعيل” أنه تحرج لصغر سنه ومكانة “جمال محمد أحمد” الرفيعة، أن يكاشفه بنية تعيينه ويكون رئيساً له، فاستعان بالأستاذ “محمود أبو العزائم” فتولى عنه الأمر، وتعاقب على المنصب التشكيلي المرموق “شبرين” والشاعر الكبير “مبارك المغربي” والأديب المرموق “فراج الطيّب”، وهكذا كان الحال في ذلك الزمان الجميل فازدهرت الثقافة السودانية أيما ازدهار.
جاء “عبدالرحيم أبوذكرى” للجامعة من مدرسة خورطقت الثانوية التي كانت ورصيفاتها حنتوب ووادي سيدنا بمصاف الجامعات، وفي خورطقت تخرج أيضاً من الشعراء “محمد المكي إبراهيم والسر دوليب”، ومن الأدباء “محمد عبدالله الريح وكامل إبراهيم حسن” ورتل من النابغين في المجالات الأخرى، وكذا حال حنتوب التي تخرج فيها من الشعراء “صلاح أحمد إبراهيم وشمس الدين حسن خليفة والنور عثمان أبكر والزين عباس عمارة وعبد الوحد عبد الله ومحمد عبدالحي وعمر عبدالماجد وجيلي عبدالمنعم وعمر محمود خالد ومحيي الدين الفاتح” وكاتب هذا المقال، وقد لمع اسم “أبوذكرى” منذ خورطقت، إذ ألف نشـيداً أصبح النشيد الرسمي للمدرسة، وتعاقب على ترديده آلاف الطلاب الذين درسوا في تلك المدرسة:
(من نقطة فيحاء في أفريقيا البلد العنيد، من طقت الكبرى سأعزف معلناً هذا النشيد،
هذا النشيد الحلو رمزاً للبلاد وللخلود،
أنا عالم تنضم تحت لوائه كل البنود)
“عبدالرحيم أبوذكرى” شاعر عبقري فقدته البلاد وقد رحل رحيلاً مأساوياً غامضاً، وترك من خلفه فيضاً من الشعر العبقري الرصين، والمتأمل لشعره يبهره نزوعه للتحليق في الأعالي والفضاء الرحب اللا نهائي والمجرات والنجوم والغيوم والطيور المحلقة والتي تتعلم الطيران، فما سر هذا الولع بالأعالي:
(انتظرني في حفيف الأجنحة
وسماوات الطيور النازحة
وقت تنهد المدارات وتسود سماء البارحة
انتظرني)
يقول الاأستاذ “كمال الجزولي”: (لقد ظل أبوذكرى مشدوداً دائماً وبقوة روحية هائلة إلى الأعالي بكل ما فيها وما يحيط بها من مفردات ومعانٍ وإلى السماوات والفضاء)، ويقول الأستاذ “بشرى الفاضل”: (تتخلل الصور الكونية حيث المجرات بأجسامها الواقعي والمتخيلة، الكثير الكثير من قصائد لأبوذكرى)
(أيها الراحل في الليل وحيداً ضائعاً منفرداً
أمس زارتني بواكير الخريف
غسلتني بثلوج وبإشراق المروج
كان طيفي جامداً وجبيني بارداً
وسكوني رابضاً خلف البيوت الخشبية
مخفياً حيرته في الشجن وغروب الأنجم
لوحت لي ساعة حين انصرفنا ثم عادت لي بواكير الخريف
حين عادت وثب الريح على أشرعتي المنفصلة
أيها الراحل في الليل انتظرني)
هذه هي القصيدة التي جعلها عنواناً لديوانه الوحيد (الرحيل في الليل) الذي أصدره عام 1973 بعد أن عاد للسودان وعمل في وزارة الثقافة والإعلام حتى عام 1978 ثم عاد أبوذكرى مرة أخرى لموسكو وحصل على درجة الدكتوراة في خصائص الترجمة من اللغة الروسية وقد أشادت بتميز رسالته صحيفة المدار السوفيتية كما يحدثنا الأستاذان “عبدالقادر الرفاعي وتاج السر الحسن”، وقد زاملاه بموسكو، كما أشاد بالرسالة أستاذه بروفيسور “شافال” عميد معهد الاستشراق الذي درس فيه “أبوذكرى”.
كان خروج “أبوذكرى” الثاني من السودان صوب موسكو، خروجاً بلا إياب، فقد (توفي بتاريخ 16 أكتوبر من عام 1989 في صباح لم تستبن بعد ملامحه بعد أن ألقى بنفسه من شرفة شقته التابعة لأكاديمية العلوم السوفيتية من الطابق الثالث عشر، وكان سقوطه وارتطام جسده عنيفاً بين الرصيف والأعشاب على جانب الطريق) كما يقول “محمد أحمد يحيى” الذي زامله بموسكو، وقد كتب يحيى كتاباً عن “أبوذكرى” بعنوان (أبوذكرى أخذ زهور حياته ورحل)، حشد فيه إفادات عدد كبير من معاصري ومجايلي الشاعر في جامعة الخرطوم وموسكو ووزارة الثقافة والإعلام، ومنهم “عبدالله علي إبراهيم وحسن فتح الرحمن وعبد القادر الرفاعي وتاج السر الحسن وبدري إلياس ووجدي كامل وعلي حمدان وأحمد بعشر وبدوي الأمين ومصطفيى سري وفايز عبد الوهاب وحيدر سيد أحمد وفايز دشين وإبراهيم بشير وإبراهيم بخيت والنور شبو والباقر أحمد” وغيرهم:
(نحن سرنا مرة بين المقاصير البهية
وجمعنا الضوء والإشراق من جسم النيازك
وتحركنا برؤيا الزمن الطفل الذي يحجل في أرض الضباب
فلماذا اخضوضرت أشجارك الأولى هنيهات وشاخت
قل لماذا كنت غيماً وانتظارا
ولماذا عدت شحاذاً ومسخاً يا حبيبي..قل لماذا)
كتاب “يحيى” عن “أبوذكرى”، كتاب شامل تعقب فيه مسيرة “أبوذكرى” منذ مرحلة الأساس بكوستي حتى نهايته الدامية بموسكو، غير أنه أفرد حيزاً مهولاً بكتابه عن النهاية المأساوية للشاعر وهو أمر شغل به زملاؤه ومعاصروه الذين أخذ إفاداتهم في الكتاب، وقد أكثر معاصروه الحديث عن اكتئابه وتردده آخر أيامه على طبيب نفسي ورجحوا أن يكون قد قفز من نافذته بمحض إرادته وقد أستوقفتني فقط إفادة مختلفة واحدة أدلى بها معاصره “فايز عبدالوهاب” الذي قال (أنا بعرف أبوذكرى كويس جداً ولا أعتقد أنه انتحر لأنه قبل وفاته عمل عملية عيون وأرى أنه وقع عن طريق الخطأ من شرفة بلكونته لقصر حائطها)، كان الأصوب أن يكون التركيز على خصائص شعره وإبداعه الأدبي، فمسألة كيف سقط من نافذته سر لا يعلمه إلا علّام الغيوب.
عاصر “كمال الجزولي”، “أبوذكرى” في موسكو وكان كما نعلم أقرب أصدقائه إليه وقد كتب كتاباً مدهشاً عن “أبوذكرى” بقلم الشاعر وعمق العبارة التي عرف بها “كمال” في كتاباته، وهو أروع ما قرأت في سنوات طويلة خلت، وقد قرأته مرات ومرات وعنوان الكتاب مستوحى من قصة للصديقين في موسكو، إذ حدثت بينهما وبين اثنين من الشباب الروس مشادة حادة فتقدم منهم عجوز روسي مهدئاً من روع الجميع قائلاً (العالم ليس مكاناً ضيقاً ونهاية العالم ليست خلف النافذة)، ومن مشيئة القدر أن تكون نهاية “أبوذكرى” خلف نافذته.
كتب صديقنا الناقد النابه “عبد القدوس الخاتم” عن شعر “أبوذكرى” بقوله (يمكن تصنيف شعر “أبوذكرى” ضمن السهل الممتنع وهو قريب من شعر إيليا أبوماضي)، وأنا لا أتفق مع “عبدالقدوس” في قوله هذا، فشعر “أبوذكرى” عميق بعيد الخيال وليس بالسهل الممتنع، وقد ترجم “أبوذكرى” وهو بموسكو قصائد لأكثر من عشرة شعراء من كبار الشعراء الروس، بخلاف مئات المقالات، وكان يترجم الشعر الروسي شعراً.. وقد كتب لـ”الطيّب صالح” يقول له (إن الشعر يفقد كثيراً حين نترجمه بلا وزن وقافية.. لا أدري ما هو رأيك في هذا الخط الجديد خط ترجمة الشعر شعراً، أو عدم ترجمته بتاتاً).
ويظل السؤال ما سر تعلق “أبوذكرى” وتهويمه بالأعالي والمجرات ومكونات الطبيعة؟
(فوق صدر النهر آلاف النجوم الراجفة
ينحني النهر عليها في عبوس
يحتويها كالعروس وهي في أحضانه منكسفة
أيها النهر القديم أيها القادم من أرض الجبال العالية
من سماوات رحيبة
أيها العالق في دوامة الشمس وفي نبع العذوبة
كن معي وازرع على جفني رشاش العاصفة)
ويمضي في مخاطبته للنهر القديم مستجيراً به ويناشده أن يمضي به نحو الأعالي، فحلمه في التحليق في الفضاء حلم راسخ لا يتزحزح:
(كن إزائي كن أمامي كن ورائي
واقتلعني من جذوري وانطلق بي في الفضاء
افتح الشرفة في وجه الرياح العاتية والقلاع النائية)
ثم يعد النهر القديم بمنحه بالمقابل كل ما يملك، والرمزية هنا لا تخفى على القارئ الحصيف، إذ ما علاقة النهر بالفضاء والسماء إن تحدثنا حديث الواقع ونزعنا عنا رداء الخيال.. أنظر بماذا يعد النهر إن صعد به للأعالي:
(إنني أعطيك ما أملك من حب وجاه
أنت منذ اليوم طفلي الملكي وقصوري وحسامي المرمري
ورئيس الحرس السائر في ركبي كظلي
وعشيقاتي اللواتي يتسللن إذا ما الليل جنا
وبساتيني التي تحجب ضوء الشمس عنا
يا نجوماً فوق كتفي تتبلج ووشاحاً من بنفسج
أنت شعبي ينحني لي
ثم يمضي ساهماً فوق السهول النائمة)
ثم تنطق الرمزية بوضوح وبلا شك عندي يصبح هو النهر..
(أيها النهر الذي كان عتياً مفعماً بالعنفوان كم توهجت زمانا
كم تغلبت على الشهوة والراحة واجتزت المكانا وتجاوزت الزمانا
كم تساميت إلى الشهب لوقت واحد ثم انحسرت
كلما أزمعت بدءاً أو رحيلاً جمدت ساقاك في الصخر وتابعت البكاء)
هذا مقال مختصر عن الشاعر العبقري “عبدالرحيم أبوذكرى” عاشق الأعالي والأجرام والطبيعة القصية، وقد توهج لهنيهة في سماء الشعر والترجمة ثم مضى، ولو قدِّر له لحلّق مثل الطيور التي جعل لها أوكاراً في شعره:
(يا أيها الطير الذي كنا نريد.. كنا نشاهده يحلق من بعيد
الحال لا يخفى عليك.. حالي أنا حال الطريد.. حال المكبل بالقيود
هأنذا أحاول أن أطير.. فبضربة أو ضربتين أدفع بساقي خطوتين
هبني قواك لليلة أو ليلتين لأحسني تحت السماء غمامة
وأحسني بين النجوم كأنني القمر المنير)
الشكر للصديق “عثمان ميرغني” الذي أفرد في صحيفته واسعة الانتشار حيزاً كبيراً لمقالي السابق عن الشاعر “علي عبدالقيوم”، كما أشكر كل من اتصل بي مشيداً بالمقال، وأخص بالشكر
أستاذي بروفيسور “إبراهيم الزين صغيرون” والأصدقاء السفراء “حسن عابدين وعمر عبدالماجد والصديق مأمون الباقر”.