خربشات (الجمعة)
(1)
إذا غضبت الحكومة من اتحاد المخابز هددت الصحافة بالإيقاف ولوحت بجز عنقها في رابعة النهار، وإذا خططت لزيادة في الأسعار (بالباب أو اللفة) وأضمرت في نفسها رفع الدعم عن الفقراء والمساكين ولم تساندها الصحافة في نواياها الشريرة، اتهمت الصحافة بالتخاذل والتخذيل وإثارة الإحباط في الشارع لمصلحة جهات مغرضة.. حتى وزير الإعلام الذي حرياً به الدفاع عن الصحافة وهو من حزب كان رائداً جداً في ممارساته الديمقراطية ويدعي لنفسه أوصافاً لتجميل نفسه، ولكن الوزير يحمل عصاه ويهدد الصحافة.. ووزير المالية الذي وقفت مع الصحف في كل معاركه الكبيرة بدءاً من الأرنيك الإلكتروني ومعركة تكسير عظام (المجنبين) وانتهاءاً بمعركة (دقيق الفيني).. وقفت الصحافة (ألف أحمر) دعماً وسنداً لقرارات الوزير “بدر الدين محمود”، ولكنه حتى اليوم غاضب على الصحافة والصحافيين بسبب (نقل خاطئ) لمحررين بالبرلمان أقوال الوزير وحتى المهندس “معتز موسى” وزير الكهرباء.. وهو من القيادات الناهضة في الحزب الحاكم، لم يعرف عنه ضيق صدر ولا خروج عن تقاليد مخاطبة الآخر.. تحدث بنبرة غاضبة جداً مع الصحافيين في حوار حول قطوعات التيار الكهربائي.. في وقت غيبت فيه السلطات صحيفة (التيار) اليومية بقرار من جهاز الأمن قضى بتعليق صدورها حتى إشعار آخر.. وجهاز الأمن بنصوص القانون يملك حق تعليق صدور الصحف رغم أن (التيار) نفسها قد حصلت في السابق على حكم قضائي ببطلان تعليق صدورها.. وتستطيع أن تسلك ذات الدرب الطويل من التقاضي حتى تعود، ولكن بعد أن تتكبد خسائر مادية فادحة.. لذلك أطلق الصحافيون مناشدات من منابرهم يدعون السلطة لمراجعة قرار تعليق الصدور في زمن تجتمع فيه القوى السياسية لإقرار وثيقة تراضي سياسي باسم الحوار الوطني. وبدأت قوى تحمل السلاح تؤوب لتحمل الآراء والأفكار.. فكيف تغلق الصحف لأسباب غير (مقنعة) حتى للحكومة نفسها والتي تتضرر من قرارات إيقاف الصحف أيما ضرر وتتأذى في منابر حقوق الإنسان من مثل هذه القرارات والتي تعود وتعيد النظر فيها بعد فترة من الزمن.. كم من صحيفة أوقفت وعادت؟؟ وكم من سياسي صودرت حتى ممتلكاته الخاصة وعادت إليه مع التعويض.. ولكن الصحافة حينما يتم تعليق صدورها لا تلجأ إلى طلب التعويض تحتسب وقوفها عن الصدور كضريبة تدفعها هي وحدها.. والصحافة السودانية اليوم ضحية للواقع الراهن والمعارضة تنظر إليها كدمية في يد النظام تجمل وجهه وتنفذ مخططاته ولا تساهم في التنوير العام ولا الرقابة سيفاً تقاتل به الحكومة وتنوب عنها في معاركها الصغيرة والكبيرة.. والحكومة تنظر للصحافة بعين الخوف وقديماً شاع في الأوساط الحكومية أن الديمقراطية التي سقطت عام 1989م، على يد ثورة الإنقاذ ما كان لها أن تسقط لولا الصحافة التي لعبت دوراً جوهرياً في إسقاط الحكم حينذاك.. وتلك المقولات رسخت في أذهان السلطة باعتبارها حقيقية!! وفي الواقع أن الصحافة لم تسقط النظام الديمقراطي ولا يحزنون، النظام الساقط في العام 1989م، له أسبابه ومبرراته وضعفه ووهنه وصراعاته، ولكن تلك المقولات رسخت لمفاهيم خاطئة تدفع ثمنها الصحافة اليوم.
(2)
في آخر الرحلات لبلاد (الحبش) كان رفيق دربي وأنيس وحشتي الصديق الإنسان “عادل الباز” الصحافي الذي حينما تجمعك به رحلة في أرض الله الواسعة تزغزغ مخيلتك ذكرى (أشعر) شعراء السودان على قول “عبد القادر الشيخ إدريس” أبو هالة، في وصف “الناصر قريب الله” والذي حينما رافقه ثلة من أصدقائه إلى أرض كسلا في شرق السودان وهو الذي اشتهر بالترحال في بوادي كردفان كتب عن تلك الرحلة وأصدقائه يقول:
يممتها بعد الشروق في خير رهط من فريقي
صحبي لديك توشحوا بأواصر الود الوثيق
وهززتهم هز النشاوى من أباريق الرحيق
أنعم بها من رحلة تهدي السرور إلى الفريق
رحم الله “الناصر قريب الله” وكتب الله للأستاذ “عادل الباز” هجرة لبلاد العرب بها تسعد حاله ويتدفق مداده ويمتد عطاؤه بعد أن أعجزه البقاء في وطنه…
وجف حبر مداده.. واختار “عادل الباز” في آخر المطاف (الخلاص الذاتي) بعد أن كان مؤمناً بأن أقلام التنوير ينبغي لها أن تكابد كل الظروف، وتقهر الصعاب وتبقى في الوطن من أجل إنسانه وأرضه وشعبه، أرهقته سنوات الضنك والعذاب.. “عادل الباز” من الإسلاميين الذين اختاروا الانفتاح فكرياً وثقافياً واجتماعياً مع كل أطياف المجتمع متصالح مع الجميع (نابذاً) لمنهج الإقصاء وشيطنة الآخر وتخوين من ليس في رهطه.. “عادل” صديق لـ”كمال الجزولي” و”عارف الصاوي”.. وحبيب ودود للواثق كمير.. ولا ينظر لـ”عرمان” كعدو.. ويمد جسور التواصل الإنساني مع الاتحاديين وأنصار السنة والبعثيين.. وحزب الأمة والمعارضين.. يكتب بقناعته لا ينتظر أن يفكر الآخرون نيابة عنه، ضاقت رئته بأوعية التنظيم.. فغرد خارجه ولم يقذف بالحجارة مثل غيره.. لا يغضب ولا يثور.. أصدر مع أصدقائه “صالح محمد علي” ود.”محمد محجوب هارون” صحيفة الصفوة في السودان التي أطلق عليها (اسم الصحافي الدولي) كانت صحيفة رصينة في لغتها.. محتشمة في جسدها.. متصالحة مع ضمير شعبها.. وصفها “حسين خوجلي” في تغريداته الاجتماعية بأنها (صحيفة لها ربطة عنق).. لم تعمر طويلاً لفشل النجوم الثلاثة في (التخلق) بأخلاقيات السوق وبيع الملابس الداخلية للصحف، فذهبت (الصحافي الدولي) إلى متحف الأفكار التي لها سيقان وبقي “عادل الباز” وفياً للقلم والحبر والكتاب والشعر والموسيقى والغناء، وذهب “صالح محمد علي” إلى دنيا الوظيفة والثراء المادي في وظيفة مرموقة في شركة (زين) التي استفادت من “صالح محمد علي” أكثر من استفادته منها.. ويمم “محجوب هارون” وجهه شطر جامعة الخرطوم.. (فتفرق) الشمل.. ولكن بقيت العلاقات الإنسانية بينهما.
واليوم يكتب “عادل الباز” السطر الأخير في رحلته الصمود ومقاومة إغراءات الهجرة ويستسلم “ود الدويم” للأمر الواقع، ويغادر الخرطوم للدوحة مثل آلاف الأطباء ومئات الصحافيين.. وملايين الكادحين الذين ضاقت بهم أرضهم فاختاروا غيرها بحثاً عن هواء يرطب الرئة.. وفسحة في العيش الكريم ورسماً لمستقبل لا يعرف (وين مودينا).
(3)
هذه العبارات كتبها “عارف الصاوي” الصحافي وثيق الصلة بالحركة الشعبية قطاع الشمال وأحد المقربين جداً من “ياسر عرمان” لزمان طويل، ولكن “عارف الصاوي” أخيراً كتب (اختار “ياسر عرمان” التحايل بالغموض بدلاً من الصراحة التي يفرضها واقع الأحداث ويتطلبها العمل السياسي المسؤول، مكرراً بذلك تجربة ترشحه في انتخابات 2010م، حيث انسحب بليل من نشاط جماهير شدت إليه قوى واسعة علقت على قيادته الآمال وظل إلى يومنا هذا صامتاً في مواجهة المسؤولية عن قرار سوي بكتابة الشعر الركيك كأن الذين تنادوا لنصرته قصر لا يعقلون حظهم، إنهم صاروا مادة لحلم “ياسر” لفي الالتحاق بجيل الستينيات).. انتهت فقرة سطرها.. “عارف الصاوي” جهراً.. ماذا هناك.. هل اندلقت زجاجة العطر.. أم ماذا يجري في دهاليز صمت العلاقات بين الرفاق (يا كومرت عارف).