إنكار الواقع
حينما أصبح غاز الطبخ عملة نادرة واعترف مساعد الرئيس “إبراهيم محمود” بأنه اشترى أسطوانة الغاز بـ(60) جنيهاً، خرج أكثر من مسؤول اقتصادي يتحدث عن وفرة الغاز ورمي باللوم على الشائعات التي تبثها جهات مغرضة، ولم يسأل وزير الطاقة مساعد الرئيس عن السبب الذي جعله يشتري أسطوانة الغاز بغير سعرها، ونحمد لابن شرق السودان أنه يستشعر حاجات منزله، وربما يحمل “القفة” ويذهب للأسواق مثل البروفيسور “غندور” ووالي كسلا “آدم جماع”.
لكن نقص ضروريات الحياة بات هو الأصل، والاستثناء هو وفرة الغاز أو الكهرباء، و(الخميس) الماضي كنت في طريقي لقضاء عطلة المولد مع أهلي في كردفان، وحينما وصلت الأبيض طفت على أحياء كريمة وفلسطين وود إلياس ونادي المريخ وطلمبة (أجب) في موقف الجبال القديم، بحثاً عن قطرات من البنزين لعربتي.. سألت كل الأبيض ووجدت البنزين أغلى من كل شيء.. محطات الوقود مغلقة ،وتلك فرصة ذهبية لتجار السوق الأسود الذي يزدهر مع الشح وكثرة الطلب وقلة المعروض.. واقترح عليّ ابن أخي “الرشيد بكري إسماعيل” ود سلطان الجلابة ،أن اشترى من السوق الأسود، ويا له من سوق أسود، من ظلمة الليل البهيم جركانتين من البنزين المغشوش، جعلت عربتي تتوقف الآن في الدبيبات ب،عد أن تعطلت بسبب ذلك البنزين الفاسد، الذي يباع بأضعاف سعره الحقيقي، وقد انتابتني شكوك عن تحالف غير معلن بين الميكانيكية والتجار ، الذي ينتظرون مصيراً محتوماً في النار، يوم أن يبعث الله الموتى لساعات الحساب.. ولما تركت عربتي جثة هامدة، طافت بخاطري حيلة حربية اتخذها “علي محمود” حينما كان والياً على جنوب دارفور، للقضاء على سيارات المتمردين الذين كانوا يحاصرون نيالا، وتفتقت عبقرية “علي محمود” لخطة تعطل سيارات المتمردين ،قبل أن تهجم عليها القوات المسلحة وقضت الخطة بتزويد مركبات التمرد بجازولين مخلوط بالرصاص ، لإصابة كل سيارة بعطب يصعب إصلاحه قريباً، وذلك من خلال إرسال شاحنتين محملتين بالجازولين عبر طريق يسيطرون عليه، وتم إطعام التمرد سم السيارات، ونجحت خطة تحرير عدد من المناطق ،وضرب التمرد.. فهل تجار الأبيض ممن يتاجرون في البنزين الفاسد، استفادوا من عبقرية “علي محمود” تلك؟!
وأمس في مطار الأبيض ، وبعد أن جلس الركاب المسافرون للخرطوم في صالة المغادرة ولأكثر من ساعة، ينتظرون قدوم طائرة شركة (نوفا)، أعلنت الشركة بصورة مفاجئة عن تأخر الرحلة، بسبب شح وقود الطائرات بمطار الخرطوم، وكلمة شح هي المفردة التي تحبذها الحكومة، وعلينا استخدامها حتى لا نصبح في زمرة الذين هددهم وزير الإعلام د. “أحمد بلال عثمان” بالويل والثبور وعظائم الأمور، إن هم تمادوا في بث الأخبار المحبطة للشعب، الذي ينتظر من الصحافة أن تكتب عن جمال الخرطوم وروعة التلفزيون وحلاوة المولد، وتطنب في الإشادة بالمالية ومحلية همشكوريب ودرديب، لكن الصحافة المغرضة تتحدث عن نقص الكهرباء وعن شح الغاز وفجوة وقود الطائرات، ومطار الأبيض الذي عادت إليه الحيوية بعد طول انقطاع ، وأخذ المواطنون يتوجهون إليه لوجود رحلات يومية لشركات الطيران الخاصة، يحتاج هو الآخر لخصخصة حتى يجد الراكب جرعة “موية” ودورات مياه وقهوة، وقبل ذلك كلمة طيبة من العاملين فيه.
إن وجود نقص في الخدمات الضرورية ، أصبح أمراً طبيعياً في ظل واقع الاقتصاد الحالي ـ واستمرار الحرب في عدد من ولايات السودان ، وإصرار الطاقم الاقتصادي على أن الحرب غير مقعده للاقتصاد، فإن غير الطبيعي ، هو حالة الإنكار المطلق لأزمات يعيشها المواطنون يومياً . ومهما ادعى المسؤولون عن توفر سلعة ما ويخرج المواطن بحثاً عنها ولا يجدها ، وذلك يخصم من مصداقية الحكومة ، ويجعل ما تقوله لا قيمة له وسيأتي يوم تبحث عمن يصدق ما تقول ولا تجده.
في سنوات الإنقاذ الأولى عاش الناس شهوراً بدون سكر واستخدموا بدائل (البلح) حتى أنتجت المصانع السكر الأبيض، وقد ضحى هذا الشعب كثيراً ، وصبر على الجوع ونقص الماء وشح الكهرباء ولا ينبغي أن يمارس عليه مثل هذا الإنكار لأزمات شاخصة أمام ناظريه.. إن الشعوب والأمم تمتحن بالحروب والأزمات والمجاعات والقحط، وكثير من المحن والمشكلات، ولكن العبرة في القدرة على تجاوزها والصبر والصدق في التعاطي معها.
لقد تدفقت على بلادنا قبل سنوات خلت خيرات البترول والإنتاج الجيد من المحاصيل الزراعية، لكن تم إهدارها في مشروعات غير مدروسة وغير ذات جدوى اقتصادية، مثل سكر النيل الأبيض ومطار مروي ، وكثير من الشوارع غير الضرورية، وتطاولت الحكومة في البنايات الزجاجية الشاهقة وتعددت المؤتمرات التفاخرية، حتى أخذنا نشتري اليخوت البحرية، ولم تمر سنوات حتى وجدنا أنفسنا أمام واقع مرير جداً تعود فيه صفوف طالبي الوقود، ويسهر البعض من أجل الحصول على جالونين من البنزين، ويشتري مساعد الرئيس الغاز بغير سعره.. ورغم ذلك يهدد وزيرنا للإعلام صحافة بلاده ، بالعقاب بدلاً عن الدفاع عنها.