جدل الهوية.. صراع فكري وجودي يحدد مستقبل البلاد.
الشعبي يطرح ورقة تحظى بالقبول داخل لجنة الحوارالوطني المختصة
الخرطوم – محمد إبراهيم الحاج
مساحة السودان الشاسعة، وامتداده المترامي الأطراف وتعدد مشاربه الفكرية والأيدلوجية ،ومنابعه الوجدانية وتقاسيمه المتباينة واختلاف مناخاته ، جعله قطراً يذخر بالثقافات المتباينة، والانتماءات العرقية التي غذت فيه شكلاً ربما غير متوفر في كثير من بلدان العالم، في أن صيرته قطراً يحمل جينات وملامح دولة أقرب للقارة، لكثرة ما يحتويه من هذه المتباينات الثقافية والفكرية والاثنية.
لعب الاستعمار دوراً بارزاً في أن تكون كل هذه الاختلافات مدخلاً للاختلاف والتقاتل ،بدلاً من أن تكون مصدراً للإثراء والتنوع.. وأتت بعده الحكومات الوطنية المتعاقبة التي فشلت هي الأخرى _ رغم صدق نوايا بعضها _ في إدارة هذا التنوع وإكسابه ميزات التعايش السلمي، وأن تكون تلك الثقافات ملهمة لابتداع وطن ينعم بخيرات وطقس اختلافه، وتأزمت بالتالي هويته.. تأزمت إلى أن أصبحت أحد مهددات الوجود لكثير من التكوينات الاثنية.. وأصبحت الهوية أمراً يؤرق مضاجع أغلب الحكومات المتعاقبة، التي تجاهلت معضلة الهوية.. ووضعتها في ذيل اهتماماتها.. بل إن بعض الحكومات تعتبر الحديث عن الهوية بمثابة ترف “مثقفاتية” ليس إلا، ولأن الإنسان هو أصل أي شيء في الدولة، تمثل الهوية البوابة الأساسية لخروج الدولة السودانية من أزمتها الحالية، أما في حال فشلنا في أن تكون لدينا هوية واضحة، فإنه، لا الثروة ولا السلطة، يمكن أن تحقن كثيراً من الدماء التي سالت ، ولاتزال تسيل ،بين أبناء القطر الواحد طوال العقود ..
من أبرز القضايا التي ركز عليها الحوار الوطني ،الذي يناقش قضايا البلاد هذه الأيام تمثل معضلة الهوية السودانية، إحدى مشكلاته الرئيسية التي سوف تناقش فيه. وينظر المراقبون باهتمام زائد إلى لجنة الهوية التي تواصل جلساتها بقاعة الصداقة بالخرطوم، انتظاراً لما سوف تسفر عنه من توصيات واتفاقات بين مختلف التكوينات السياسية والفكرية والاجتماعية ، التي تدأب على مناقشة مهدداتها.
هل هناك فكر جديد في المؤتمر الشعبي؟
أمس قدم المؤتمر الشعبي ورقة الهوية في اللجنة المختصة ، وتضمنت عدة محاور مهمة للغاية ، بدا أنها وجدت القبول والارتياح من كثير من أعضاء اللجنة، واستطاعت (المجهر) أن تحصل على أبرز ما حوته الورقة التي قدمتها “د. سهير أحمد صلاح” ، ممثل المؤتمر الشعبي في لجنة الهوية، وتناولت الورقة كثيراً من قضايا التجديد في الفكر الديني، واستعرضت تجربة سيدنا إبراهيم وهجرته إلى مكة وأثر الهجرات على تكوين الدول الحديثة، مثل أمريكا التي تكونت بثقافات مختلفة ،وبهجرات من أصقاع الأرض المختلفة.
وكشفت لـ(المجهر) “د. سهير” أن الورقة استعرضت تجربة “الولايات المتحدة الأمريكية” ، وأن الهجرات إليها من كل أنحاء الأرض أدت إلى النبوغ والتميز، وأضاف ذلك شيئاً ايجابياً في مجال العلوم والتكنولوجيا، ورغم أن أمريكا مرت بمحطات صعبة للغاية، واستعرضت الورقة تجارب السودان في الهجرات إليه، بعضها لظروف طبيعية أو لأشياء بفعل الإنسان مثل الحروب والنزوح والتجارة أو الحج، واستطاعت أن تشكل جزء من نسيج الشعب السوداني، كما تطرقت إلى الهجرات التي صاحبت إنشاء مشروع الجزيرة ، والتي استدعت هجرة شعوب من غرب أفريقيا استوطنت بالبلاد ، وشكلت كثيراً من وجدان الشعب السوداني، وتابعت “د. سهير” ، أن ورقة المؤتمر الشعبي أشارت إلى أنه رغم الهجرات من الشرق والغرب، إلا أن مكونات الشعب السوداني تبدو متقاربة ،إلى حد بعيد ،مقارنة بشعوب أخرى مثل “الولايات المتحدة”، التي تختلف ثقافاتها الأفريقية عن الأسيوية ،عن المكسيكية، ولفتت الورقة إلى أن الدين يمثل واحداً من مكونات الشعب السوداني، وفي توصيات الورقة أوضحت “د. سهير” أنها أكدت على ضرورة أن يكون هناك نص في الدستور يحقق العدالة والمساواة والتنمية المتوازنة ، وقوانين تردع العنصرية، بالإضافة، إلى سياسيات تعزز نماذج أيجابية ، من ضمنها النظام التعليمي يراعي التنوع، وأن تحدث تنمية متوازنة وتبني وسائل مواصلات للسكة الحديد ،لتسهيل الحركة بين أجزاء القطر، وأضافت “د. سهير” أن الورقة أكدت على ضرورة أن تتبنى سياسة التنقل في وظائف الدولة العليا، بحيث يتنقل الموظفون في كل بقاع السودان، بالإضافة إلى توطين مهرجانات لإبراز الثقافات المختلفة، كما أن الإعلام يجب أن يعبر عن كل السودان، وعبرت “د. سهير” عن رضاها الشديد عن الورقة ، التي قدمها حزبها، وقالت إنها أول ورقة لم يحدث تجاهها هجوم، مشيرة إلى أن الكثيرين استفسروها ، عن مدى اقتناعهم بما قدموه في الورقة، لافتة إلى أن الورقة مضت إلى الحديث عن القيم العليا مثل العدالة والحرية.
قضايا الهوية
تجاوزت ورقة المؤتمر الشعبي الحديث عن الأيدلوجيات الضيقة ،ونبهت إلى كثير من قضايا الهوية، وهو ما جعل “د. راشد دياب” يعلق عليها بقوله في حديثه لـ(المجهر) إن ورقة المؤتمر الشعبي فيها تحول من مفهومي الدولة والدين، بينما أعرب “علي شوقار” ممثل حركة تحرير السودان ،(القيادة الجماعية)،عن أمله في أن يكون المؤتمر الشعبي صادقاً فيما طرحه في الورقة، وتابع في حديثه لـ(المجهر) أن لجنة الهوية قدمت فيها أوراق تحوي نوعاً من حقوق الإنسان، ووصف ورقة القيادات الإسلامية بالجيدة ومهتمة بحقوق الإنسان، وقال إنهم (انخلعوا) مما ورد فيها من قيم عليا، مشيراً إلى أنهم أتوا للمؤتمر (عشان يشاكلوا) ،ولكن رؤيتهم أبهرتنا، وتابع: نحن في حركة التحرير ، قدمنا أوراقاً تحوي مهددات الهوية في البلاد، وقلنا إن هناك استعلاء عرقي من النخب، وهناك شخصيات ، مختلف حولها وحول أدوارها، ، يجري تكريسها ،وهناك كثير من الساكتين عنها في الإعلام، وهذا الأمر يولد غبناً. كما أن فرص التعليم غير متوازنة والمدارس مركزة على الشريط النيلي، وأبان “شوقار” أنهم شددوا على أهمية أن يكون هناك تقسيم عادل للسلطة والثروة في البلاد، وهناك أقاليم منتجة في البلاد تعاني من الفقر، مثلاً شرق السودان، نجد أنه يمثل بوابة أفريقيا، وكان من المفروض أن تكون فيها تنمية، وهناك أقاليم تنتج الحيوانات، كان ينبغي أن تنشأ فيها مدابغ.
عقل مفتوح لقضية عميقة..
تحظى لجنة الهوية في مؤتمر الحوار الوطني ربما على عكس ما كان يعتقد الناس باهتمام كبير، وبالغ من المتابعين لها ومن المشاركين فيها ، والتي سبق أن شهدت مداخلات خشنة للغاية، وهذا الاندفاع الشديد ربما بسبب حساسية الحديث عن الهوية ،في حد ذاتها في بلد ربما لا يزال الناس يتعاملون فيه مع فكرة الهوية التجريدية، في علاقاتهم الاجتماعية، وفي صياغة تحالفاتهم السياسية في كثير من الأوقات، كما أنها من الممكن أن تحدد ،إلى حد بعيد شكل البلاد وإرساء السلام الاجتماعي داخله، وإن كان ثمة همس ندلقه في أذن النافذين في لجان الحوار، أن الإمساك بتلابيب الشخصيات وحشد الوجوه اللامعة من الشخصيات المعارضة، التي لا تستند إلى ارث فكري أو فلسفي ،أو لديها القدرة على التغيير الايجابي لن يحل معضلة عميقة ،مثل قضية الهوية عانت من تبعاتها السالبة كل الحكومات السابقة، التي دفع ولايزال يدفع ثمنها الشعب السوداني ،عبر الحقب التاريخية المختلفة، ما يريده الناس حقاً هو تشريح تلك المعضلة بعقل وصدر مفتوح، قادر على مناقشة القضية بكل أبعادها وتبعاتها.. فلسنا في حاجة لتضخيم شخصيات ،لا تنظر أبعد من مصلحة حزبها، أو مصلحتها الوقتية.