وطبعهم جميل
قال لي وأنا أنقده جنيهات المناديل الورقية التي يبيعها عند التقاطع الكبير، قال (شكراً جزيلاً)؛ هززت رأسي أن (عفواً)؛ احتواني تهذيبه الرصين؛ كان صبياً به سمت عوام أهل هذه البلاد؛ تلفح من غائلة البرد الصباحي برداء رياضي تآكلت مقابض رتاجه من الأمام، لكنه جعله مثل العباءة فوق جلباب قصير انتهى بعراقي على جسد نحيل.
عددت في لحظة غفلة منه صناديق المناديل فوجدتها سبعة؛ قلت في نفسي محصلته بالكاد تصل عشرة أو عشرتين؛ تلك ثلاثين كاملة إن حظي بإمداد؛ هممت بالتحرك بعد أن أجاز الضوء الأخضر السير لصفنا ثم ألم عطب طارئ بمركبة أحدهم فأنزل الضوء الأحمر علينا عقوبة بالانتظار؛ لعنت في سري رفيق صفنا ثم استغفرت الله وعدت أتابع سير الصبي بين المركبات فلمحته يشير نحوي كأنه يريدني.
وصلني وهو يمد لي بجنيه قطعة معدنية فردها على راحة كفه الصغيرة وهو يقول إنه احتسب نقده خطأ وهذا الجنيه لي؛ قلت له واهبك له بلازمة السودانيين التي تصفر مجادلات البيع والشراء (ماف مشكلة) صمت لبرهة كأنه يدير مراجعة شرعية ثم قال مرة أخرى (شكراً جزيلاً) وهو يبتسم في حياء نضير؛ صبية رائعون هؤلاء الذين يجملون ساحات هذا الوطن بالجهد الشريف.
احترمهم حد النهايات؛ أحياناً حتى إن زجرتهم يمضون عنك بلا غل أو ضغينة ومثلهم إنما يقفون يسدون عين الشمس ويصمدون أمام الفقر والمطر لإقالة عثرة أسرة؛ لبر والدة أو عون أب أو إكفاء شقيق يكابد العلم ويتطلع للنجابة؛ لم يرتضوا مد اليد أو السكون تحت الظلال في بند العاطلين أو الغارمين؛ لم يتسوروا جدران المهاجر ولو أنهم فعلوا لما لامهم أحد؛ لا تثريب عليهم وفي الأرض مراغم كثيرة وسعة خاب سعيهم أو نجح.
هم في عرف السلطات بثور واجب إزالتهم وهم في عرفي نبلاء والدليل أن أولئك الباعة لم يتورطوا في حادث سرقة أو عنف، لأنهم يطلبون الحلال على قارعة الطريق ولست أعلم ما هو التقنين المطلوب لحالهم، وإن اعتقد أن اقتصادنا إن طاب وتعافى فيمكن ادخار أولئك الصبية ليوم كريهة وسداد ثغر في سوح إنتاج أعظم، ومساحات عطاء أفضل واللهم إني قد بلغت فاشهد لمعسرين وطبعهم نبيل.