الصراع القبلي ومأزق النازحين والأمن.. عقبات تواجه دارفور
ثلاثة أيام في نيالا البحير
ألفا وظيفة وهمية.. و”حسبو” يكرم الرجل الذي أسقط “علي الحاج” في الانتخابات
حديث السبت
يوسف عبد المنان
ثلاثة أيام تمتد منذ الصباح الباكر وحتى الساعات الأولى من فجر اليوم التالي كانت هي حصيلة زيارة الدكتور “حسبو محمد عبد الرحمن” نائب رئيس الجمهورية لولاية جنوب دارفور التي اتسمت بثلاثة مظاهر جوهرية، أولها طغيان الانشغالات بقضايا التنمية الاجتماعية والاقتصادية وتنظيم السلطة وكيفية معالجة أوضاع النازحين وعودتهم لمناطقهم، ولم ينشغل النائب كثيراً بقضايا السياسة اليومية، وقد خصص ساعتين فقط لحزبه المؤتمر الوطني يوم (الخميس) أول أمس، بينما زاد عدد الساعات التي ترأس فيها الاجتماعات عن (12) ساعة طوال الأيام الثلاثة التي أنفقها “حسبو” في مدينة نيالا عاصمة جنوب دارفور، وقد رصدت (المجهر) طوال الأيام الماضية أحداث الزيارة وما وراءها وما ترتب عليها من قرارات وتوجيهات لنائب الرئيس.
{ ملف النازحين
ستمائة ألف نسمة هم جملة النازحين بسبب الحرب في جنوب دارفور وحدها يحيطون بالمدن الكبرى، وخاصة العاصمة نيالا، وبعد (13) عاماً من انتظار تحقيق أحلام وآمال سوقت لها المعارضة والحركات المسلحة وهم يمنون النازحين بجنة في الأرض تنتظرهم حال سقوط الحكم القائم بتعويضات دولارية ستأتي إليهم في يوم ما، بعد هذا الانتظار بدأت الآن مرحلة جديدة بعودة الوعي للنازحين بالأمر الواقع، وفي ذات الوقت تبدلت في معسكر الحكومة سياسات وتوجهات قربت المسافات بين النازحين والحكومة التي بدلت نظرتها نحوهم فصارت تنظر إليهم كمواطنين لا متمردين يوالون حاملي السلاح، وأصبحت الحكومة الآن تدخل المعسكرات تخاطب مواطنيها، وقد رفع الوالي “آدم الفكي” القيود الأمنية عن معسكرات (السلام، كلمة وعطاش) الشيء الذي جعل قادة النازحين يهرعون سراعاً للقاء نائب رئيس الجمهورية في يوم (الأربعاء).
وجاء قيادات النازحين للقاء “حسبو” وهم أكثر قناعة بأن مشكلة معسكرات النازحين يجب حلها ويتوق بعضهم للعودة لقرى هجروها قسراً قبل (13) عاماً مضت، وبعضهم يرفض العودة ويسعى للاندماج في المدن كمواطنين لهم حقوق وعليهم واجبات، لكن العودة تكتنفها صعوبات وعقبات كبيرة تتمثل في ثلاث مشكلات.. أولاً- النازحون الذي هجروا مناطقهم ولن يستطيعوا العودة لذات القرى بسبب وجود مجموعات من مواطنين احتلوها واتخذوها قرى لهم ولن يغادروها وهؤلاء لا تستطيع الحكومة إرغامهم قسراً على مغادرة أرض ليست أرضهم، وإن استطاعت الحكومة إجبارهم بالقوة على الخروج من تلك القرى سيظلون متربصين بالعائدين.. ثانياً- العودة الطوعية تكلفتها المالية تفوق قدرات الحكومة في الوقت الراهن، ولا تلوح في الأفق بادرة أمل في مشاركة المجتمع الدولي في المساهمة في العودة الطوعية للنازحين.. ثالثاً- يكتنف توطين النازحين في المدن وإدماجهم في المجتمع صعوبات كبيرة لأن مدينة مثل نيالا يفوق عدد سكانها المليون والثلاثمائة ألف نسمة إذا تم توزيع قطع أراضٍ سكنية لهم وتقديم الخدمات لهم، فإن كلفة إعادة الإدماج تفوق قدرات الدولة في الوقت الراهن لكن “حسبو” أعلن عن نهاية عهد النازحين والاستجابة لرغبتهم بتفكيك تلك المعسكرات، وقال “حسبو” إن الدولة لن تترك مواطنيها في معسكرات تهدر كرامة الإنسان وتجعله إنساناً يعطي وينتج، وتبرعت رئاسة الجمهورية بتراكتورات لتوطين العائدين.
{ ألفا وظيفة وهمية بنيالا
كشف “يوسف الحسين” وزير مالية جنوب دارفور الذي جاء تعيينه بقرار مركزي قبل التعيينات الأخيرة، كشف عن وجود ألفي وظيفة وهمية في ولاية جنوب دارفور تصرف فيها رواتب دون وجه حق، وقال إن جملة الموظفين بالولاية كانوا (29) ألف نازح، وقد أتبعت حكومة الولاية سياسة حوسبة المرتبات وتم اكتشاف هذه الوظائف الوهمية، الشيء الذي وفر أموالاً لحكومة الولاية. وأماط الوالي “آدم الفكي” اللثام عن حقائق أكثر مأساوية حيث واجهت الحكومة مشكلة كبيرة إذ عين أحد الولاة السابقين (4) آلاف موظف دون حاجة الولاية إليهم ولا المال الذي يغطي رواتبهم الشهرية، ولم تعترف المالية بتلك التعيينات، وبعض من هؤلاء الآن يصرف رواتبه، وآخرون لا يصرفون رواتب منذ تعيينهم، ولجأ البعض للقضاء ونحن على يقين بأن لهؤلاء قضية عادلة، ورفض الوالي أن يسمي هذه التعيينات بالفساد، لكنه قال: (أنتم اطلقوا عليها الوصف الذي يشبهها).. وفي الاجتماع الذي عقده نائب رئيس الجمهورية بحكومة الولاية والوزراء المركزيين واستمر من الثامنة مساءً حتى الواحدة صباحاً، تكشف وضع جنوب دارفور الحقيقي اقتصادياً واجتماعياً وخدمياً وتبدت مأساوية الوضع الصحي من خلال اعترافات الوزير “بحر إدريس أبو قردة” عن مستشفى نيالا الذي يبلغ عدد أسرته (500) سرير فقط لعدد مليون ونصف المليون من السكان، ونقص الأطباء والكوادر المساعدة.. ووجه النائب “حسبو” باعتماد خطة عاجلة لزيادة عدد المراكز الصحية في الأحياء السكنية بمدينة نيالا وإنشاء مستشفى آخر، إضافة إلى مستشفى النساء والتوليد الذي ينتظر افتتاحه في مايو القادم. وقال مدير ديوان الزكاة “محمد عبد الرازق” في مجلس الوزراء إن جنوب دارفور من أفقر الولايات في السودان، ورغم ذلك استطاع الديوان دخول معسكرات النازحين وتقديم الخدمات لهم بسبب ثقة النازحين بالمعسكرات في موظفي الديوان، لكن الوالي قال إن أكثر من (60%) من الرعاة لا يدفعون الزكاة، وحينما سألته عن إمكانية إرغامهم على دفع الزكاة كما فعل “أبو بكر الصديق” رضي الله عنه قال: (لا أستطيع الدخول في منازعات جديدة.. نحن في غنى عن المشكلات).. وعلى صعيد الكهرباء فإن نيالا موعودة بصيف بارد جداً، حيث سرت في الشبكة نحو (23) ميقاواط جديدة بسبب المحطة الجديدة التي تغطي حاجة نيالا القديمة، لكن هنالك نقص كبير يصل إلى (40%) إذا تم التوسع في التوصيل للأحياء الجديدة التي نشأت في السنوات الأخيرة.
{ تكريم الرجل الذي أسقط “علي الحاج”
في بادرة تعكس تعافي الإسلاميين من عصبية من كان في خندق الخصم السياسي، شهدت احتفالية الهيئة الخيرية الشعبية لتكريم رموز النشاط الإنساني السياسي والاجتماعي تكريم الرجل الذي حرم الجبهة الإسلامية القومية عام 1986 من أن يدخل الرجل الثالث فيها وأمينها السياسي د. “علي الحاج” البرلمان، وقد أفلح المساعد الطبي “مالك الزبير عبد الرسول” في حرمان اختصاصي النساء والتوليد من ولوج ساحة البرلمان حينذاك، وقد شد “حسبو محمد عبد الرحمن” نائب رئيس الجمهورية على يد الرجل الذي ولد عام 1929 ومنحه وسام تكريم ومبلغاً من المال قدمته رئاسة الجمهورية لكل المكرمين من رموز جنوب دارفور من المرحوم “الزيلعي” إلى الحاجة “فاطمة بخيت” رمز الطب المساعد بنيالا و”الهادي عيسى دبكة” أحد الرموز التي صنعت الاستقلال، وقد أعلن “حسبو” عن تخصيص قطعة أرض سكنية لكل واحد منهم، وقد خصص النائب مبلغ (500) ألف جنيه لنشاط الهيئة الخيرية وإنشاء مدرسة قابلات باسم “فاطمة بخيت”، ومركز إسلامي باسم “عثمان الهضيبي”، ومركز اجتماعي باسم المرحوم “الزيلعي” وفاءً وتقدير لما قدمته أيديهم.
وتكريم “مالك الزبير” يمثل مصدر عافية وجدانية وتصالح مع الذات، وقد فاز المساعد الطبي على زعيم الإسلاميين حينذاك رغم النجوم التي وقفت إلى صفه من المرحوم “داوود بولاد” إلى “أمين بناني” و”حماد إسماعيل”، لكن كان للناس أمل في “الصادق المهدي” وحزب الأمة الذي كان للشعب فيه أمل قبل أن يخيب ظنه فيه.
{ قريضة تتعافى
لن ينسى أهل دارفور مأساوية قريضة التي عاشتها في السنوات الماضية حينما هاجمت المنطقة مليشيات حركة تحرير السودان برئاسة “مني أركو مناوي”، وعاثوا في المنطقة فساداً أخلاقياً وهم يدخلون المنطقة في عام 2004 وظلوا في تلك المنطقة ينهبون خيراتها ويقهرون أهاليها حتى أخرجوا منها عنوة عام 2009، لكن لا تزال المنطقة تدفع ثمن التمرد، حتى أن الشق الشمالي من قريضة المعروف بقرية “أم سعونة” وتم استتباعها لرئاسة الولاية، تتنازع بشأنها محليتي قريضة وتلس، وحينما صعد “حسبو محمد عبد الرحمن” نائب لرئيس الجمهورية أمس لمخاطبة اللقاء الجماهيري تعالت أصوات الجماهير مطالبين رئاسة الجمهورية بالتدخل لحسم النزاع الذي تطاول ولم تفلح حكومات الولاية المتعاقبة من الوصول لحل مرضٍ له، لكن “حسبو” تحدث لآلاف الجماهير عن مشكلات النازحين حيث تحتضن قريضة وحدها (120) ألف نازح يتوقون للعودة إلى قراهم التي أجبرتهم الحرب على مغادرتها، لكن هنالك مجموعة من القاطنين الجدد قد احتلوا تلك الأرض واتخذوها أرضاً لهم، فأصدر نائب رئيس الجمهورية توجيهات قضت بأن يخرج الوالي أي إنسان احتل أرضاً غير أرضه، وأن تتخذ الحكومة تدابير أمنية تحفظ لكل من يرغب في العودة حقوقه كاملة ودون إخلال بمبدأ أن يتشارك الناس منافع الأرض، وقال: (يجب إفراغ معسكرات النازحين من قاطنيها وإلغاء مفردة نازح لأنها مهينة لكرامة الإنسان وتحط من قدره).. وفي ذات الوقت، عدّ “حسبو” معسكرات النازحين والعيش داخلها يتنافى والسكن الشرعي، واتخذ النائب قرارات بعودة الجهاز القضائي فوراً لقريضة وفتح فرع للبنك الزراعي وآخر لبنك الادخار، ووجه مدير التأمين الصحي د. “طلال” بإدخال الـ(300) ألف نسمة من سكان المنطقة تحت مظلة التأمين في الأيام القادمة.. وتقع قريضة جنوب نيالا بنحو (85) كيلومتراً وهي المنطقة التي يتم فيها الآن حفر الآبار الجوفية لمشروع مياه نيالا الذي توقف منذ (13) عاما بسبب اختطاف التمرد لعدد من عربات الشركات التي كانت تعمل في المشروع إضافة إلى اختطاف المهندسين والعمال، ويقطن قريضة أغلبية من المساليت وقليل من التنجر والفلاتة في منطقة أم سعونة، وينوب عن قريضة في المجلس الوطني الفريق “شقف” الذي دعا نائب رئيس الجمهورية أمس إلى ضرورة العمل بجد لحل مشكلات الدائرة الجغرافية.
غادرنا قريضة بعد أداء صلاة الجمعة في مسجدها العتيق وأدى التيجانية صلاة الفاتح للوفد الذي أتحفه “بحر أبو قردة” بقصص وحكايات من أيامه في قريضة متمرداً.
{ “حسبو” يهدد عضوية الوطني بالفصل من الحزب
في اللقاء الذي نظمه المؤتمر الوطني مساء (الأربعاء)، تحدث نائب رئيس الجمهورية القيادي في المؤتمر الوطني بصراحة شديدة لنواب الهيئة البرلمانية بجنوب دارفور وأعضاء الشورى وأمناء الأمانات ورؤساء القطاعات المختلفة ورؤساء المناطق، حيث وضع نقاطاً عديدة على السطور والحروف وهو يحذر من مغبة الصراعات الجهوية والقبلية والمناطقية، وهدد قيادات الوطني بالفصل من الحزب فوراً في حال ارتكاب أي عضو واحداً من الممنوعات الحزبية، وهي أن يوظف قبيلته من أجل الحصول على مكسب أو إثارة الفتنة بين أعضاء الحزب أو الخروج على قرارات المؤسسات بطرق ملتوية أو الاستنصار بالقبيلة من أجل مغنم، وقال إن جنوب دارفور شهدت أيام الانتخابات انقسامات على أساس قبلي مقيت هددت سلامة المنطقة برمتها، وأضاف: (تلك صفحة يجب طيها للأبد والآن للمؤتمر الوطني قيادة جديدة ليست طرفاً في خلافات الماضي القريب والبعيد، وكان حزب المؤتمر الوطني قد انقسم أثناء اختيار المرشح لمنصب الوالي إلى مجموعات صغيرة على أساس قبلي كانت هي الدافع الجوهري لإلغاء الانتخابات وقتها واستبدالها بالتعيين الحالي). وشدد “حسبو” على ضرورة احترام المؤسسات الحزبية وأن لا يخرج الناس عن تلك المؤسسات مهما كانت الظروف التي تدفع العضو للاختلاف مع الآخرين، وقال إن “غازي صلاح الدين” قد خرج من الحزب فكيف صار اليوم، وتمثل تجربة “غازي” عبرة لكل من يخرج عن الإجماع، وقال إن قيادات الحزب “علي عثمان محمد طه” ود. “نافع علي نافع” ود. “الحاج آدم يوسف” عندما تنحوا من مواقعهم التنظيمية والدستورية في الدولة ظن البعض أن المؤتمر الوطني فقد رشده، وحتى شخصية مثل السيد “الصادق المهدي” رئيس حزب الأمة اتصل مستفسراً عن ما يحدث في المؤتمر الوطني وهل فعلاً تنحى منه القيادات الثلاثة؟؟ وأضاف: (بعد تنحيهم لم يخرجوا من الحزب بل انخرطوا جنوداً فاعلين.. وتلك هي القدوة التي حري بقيادات الوطني إتباعها في كل مكان).