حوار وطني تحت شجرة!!
تجانى حاج موسى
عدد من أصدقائي أرباب المعاشات اعتدنا الجلوس تحت أشجار “النيم” في الناحية الجنوبية لمنزل الزعيم الراحل “الأزهري”، وهؤلاء القوم تشكيلة رائعة وعجيبة، فيهم الموسيقي والمغني والكاتب والضابط والباحث، وفيهم من تقلد وظائف قيادية رفيعة، ومضيفنا صاحب البوفيه موسوعة في حقبة غناء الحقيبة وأساطينها وفرسانها، والرجل مخزن معلومات وأرشيف تمنيت أن أجلسه لتدوين تلك المعلومات حتى لا تندثر وتصبح طي النسيان.. وبالمناسبة نحن أمة السودان نتحدث ولا ندون الأحداث التي تمر بحياتنا ولا أعلم سبباً لذلك، أحياناً أقول السبب مرده تكلفة الطباعة أو ربما نحن أمة جبلت على الثرثرة والحديث، فقلت لأجعل المساحة المخصصة لي في صحيفتنا الحبيبة (المجهر السياسي) لشذرات من أحاديثنا التي طالت معظم المواضيع.. تقريباً أجمع القوم على تميز إنسان فهو “تفتيحة” وذوق، وما برضى الحقارة وأحمق وأخو إخوان وأمين في الغالب الأعم وشجاع، المهم عددوا الكثير من القيم الإيجابية التي تحسب له، ومرد تمتعه بتلك الصفات المشرفة أنه من أمة تحضرت قبل سبعة آلاف سنة من قبل الميلاد، ودللوا على ذلك بما تركه أجدادنا النوبة في مقابرهم ومعابدهم، وقد شهد لنا دارسو علوم الآثار والتاريخ.. طيب إذا كان أجدادنا دونوا تاريخهم ليه نحن ما بندونه؟! ولا نحن أحفاد غبيانين ومطموسين؟! لكن ذهب البعض إلى أن أبا البشرية قاطبة سيدنا “آدم” عليه السلام خلقه الحق في مكان ما بين النهرين العظيمين!! شُفتوا كيف!!
أما الاقتصاديون من سمار منتدى الشجرة فقد أجمعوا بأن السودان حقيقة هو سلة غذاء العالم وهو الأرض الوحيدة في بلدان الدنيا كافة التي منحها الله كل عناصر النماء والتقدم والعمران، الأرض الماهلة الخصبة، المياه، الثروة الحيوانية والمعدنية وحاجات كتيرة من نعم خص المولى بها أهل السودان!! طيب أهل السودان الحاصل ليهم شنو؟! ما بشتغلوا يا ربي؟! كسلانين يعني ولا شنو؟! قالوا ناس الشجرة: كانوا بيشتغلوا لغاية ما فاتوا الإنجليز الكانوا مستعمرين البلد، وأثنوا عليهم بالإجماع لأنهم تركوا نظاماً إدارياً منضبطاً وبنيات أساسية ما شاء الله.. مشروع الجزيرة وقطنو طويل التيلة المطلوب من كل بلدان العالم، وسكة حديد تضبط عليها الساعة، وتربية وتعليم بخت الرضا وكلية غردون البقت جامعة الخرطوم وخور طقت وحنتوب ومدارس ثانوية ما شاء الله.. والدليل على عافية التعليم الرعيل الأول من خريجين أداروا أمور البلاد، ومنهم من سودن الوظائف العليا الكانوا بيشغلوها الإنجليز الاستعمرونا.. وناس الشجرة قالوا العجب في نيلينا للاستقلال!! كلام كتير خلاصتو إننا ما طردنا الإنجليز براهم سابوا البلد، زهجوا مننا!! وتحدثوا عن تراجعنا وانحدارنا وتخريبنا لحاجاتنا القيمة، وتحسروا على طق الشجر عشان الصمغ الكنا بنصدروا قطعنا حتى الشجر القام براهو كان بيدينا صمغ وبيحدث لينا توازن في البيئة والمناخ، أما المصانع الماتت فهذه مصيبة المصائب، حتى القماش الكنا بنصدروا لي دول كبرى بقينا نستوردوا!! وناس الزراعة الكانوا بيزرعوا في أراضي النيلين على امتداد الوطن، انهارت طلمبات المياه، هجر أصحاب المشاريع الكبيرة الزراعة.. أما الزراعة المطرية فحدث ولا حرج هجرها الزراع لأن الطبيعة ضنت بالمطر.. وكمان تحدثوا عن أعشاب طبية كانت بتقوم بروس ساكت في الخلا، والسنمكة والحرجل والقرض والكركديه وأسماء عديدة من الأعشاب المكونة للدواء ما عدنا نحفل بها.. وتحسروا على شارع الشوام والعناقريب، وعلى الصناع الماهرين الفنانين الذين كانوا يبدعون في صناعة التحف من سن الفيل والأبنوس والعاج والسكسك وريش النعام.. وتراجع إنتاج القضيم واللالوب والنبق والعرديب وثمار أخرى سموها بأسمائها وكلها تنتج عصائر طبيعية ذات فوائد صحية.. وتحدثوا عن الحلو مُر وحتى عن الطعام لأهل السودان ملاح المرس والكنبو والكول واللوبة وعصيدة الدامرقة، وأصناف لا حصر لها من الأطعمة.
هذه الونسة من قبيل البكاء على ما ضاع أو بالأحرى ضيعناه.. وقديماً قالوا إن الإنسان ابن بيئته، والخالق العظيم خلق الإنسان وعلمه البيان وخلق الأرض لنمشي في مناكبها ونأكل من رزقها زرعها وضرعها وكيفنا بالفطرة أن نتواءم مع بيئاتنا فتمردنا بدواعي التقدم والتحضر.
كنا ساكنين كويس في بيوت الجالوص والحيشان الواسعة والهمبريب والمهلة، بقينا نسكن الشقق ويزلقنا السيراميك، والعجب كان الكهرباء قطعت وبتقطع كتير وبتضيق الخلق.. وتضيق المدن، والمتر من أرض الله يبقى بالشيء الفلاني، ومُدنا الصغيرة وقُرانا الحبيبة ينعق فيها البوم وبقت أطلال، والسبب المركز الخرطوم وما تقول لي حكم فيدرالي.. المركز ما جايب خبر الولايات البعيدة وما أداها حقها من التخطيط والدعم عشان كده أصبحت ولاية الخرطوم مخنوقة خنقة عدوك والله يكون في عون أي والي للخرطوم!!
زمان، ما زمان بعيد، كان اللبن يجيبهو ناس كافوري لغاية عندك في البيت ولو كنت ما في البيت تجي تلقاه قاعد في خشم بابك، ومواصلات العاصمة متوفرة والتذكرة رخيصة، دي لترحيل عموم الناس، وطلبة المدارس عندهم “أبنوي” يجددوهوا كل شهر بي تراب القروش.. أما مضيفنا “الشاذلي” فقد كان مرجعاً لحقبة الحقيبة، ملماً بكل شعرائها ابتداءً من المرحوم “العبادي” وانتهاءً بالشاعر الملحن المرحوم “عبد الرحمن الريح”.. طبعاً ما سمعنا كلام “العبادي” في ملحمتو الشعرية الورانا فيها ما تجره القبلية والتحزب، ده شايقي وده جعلي”الجنس سوداني” واليوم النسمع النصيحة ولما يسألونا جنسكم شنو؟ نقول طوالي “سوداني”.. ولنعترف بأننا أمة تعتد بالجهوية والقبلية وده “ود فلان” وده “ود علان” وجدو منو، وعمو منو، ونسينا إنو أكرمنا عند الله أتقانا ولا فرق بين عربي أو أعجمي إلا بالتقوى.. وخلاصة تلك الأحاديث هي الوصلتنا إلى ما نحن فيه الآن، ولا حول ولا قوة إلا بالله.. والناس تحت شجرتنا هذه يتناولون الموضوع ويقتلونه بحثاً، وينتهون بأن الشعوب هي التي تبني أوطانها وهي التي تخربها، واجتماع أهل السودان على قلب رجل واحد صعب لكنه ليس مستحيلاً.. بعضهم يصر على محاسبة الأنظمة ويضع هذا الأمر شرطاً لانتظامه في مسيرة بناء الأمة، وبعضهم آثر حمل السلاح ليسقط نظام الحكم وإن أنفق سني عمره ولا يهمه إن كان ما يفعله خصماً على إجماع الأمة، وليته خاض حربه دون إعانة الأجنبي الذي لا يريد لنا خيراً، والمحزن حقاً في هذه الدراما أن ضحاياها هم الشباب الذين لم نترك لهم وطناً متماسكاً في لحمته البشرية أو حتى بعض مقومات البنيات الأساسية التي يمكن أن يبنوا عليها وطناً يكفل لهم العيش الكريم، وبارقة الأمل أيها الأحبة تكمن في الحوار والإيمان بالوطن والمواطنة، وبعد جرد الحساب، تبدأ الأمة بداية قوية تسخر طاقاتها للتمتع بالخيرات العميمة التي وهبنا إياها الخالق وأولها الماء والأرض ومقومات لا حصر لها، ويكفي الاحتراب في وطن يرقبنا بدهشة وخجل.. بعدين حكاية كل زول يقول يا روحي– فقط– هذه هي الشرارة التي يمكن أن تحرق كل شيء.. أحد أصدقاء الشجرة مقتنع أن أهل السودان لم يحدث لهم ما يحدث من احتراب في العديد من الدول العربية إلا بسبب دعاء الصالحين لله بأن يحفظ أمتنا من التمزق.. اللهم يا كريم نوِّر بصيرة أهل السودان وابعد عنهم الفتن واهدهم إلى ما يجعلهم أمة متحدة تحب تراب وطنها، وتتطلع بعملها إلى بناء ما تهدم.. آمين!!