ـــ سكان منطقة الشاحنات يعيشون وضعاً مأساوياً بين مخلفات المصانع والصرف الصحي
لا يفصلها عن وسط العاصمة سوى بضع كيلومترات
ـــ معظم السكان تمتلئ رئاتهم بدخان الفيرنس الأسود متسببا لهم أمراضاً صدرية
ـــ رئيس اللجنة الشعبية.. ظللنا ولفترة نحارب المصانع.. وقضايا البيئة من القضايا المهملة
ــــ معلمة تحجم عن التصريح وتقول إنها تعرضت لتهديد من إحدى الجهات بالويل ، حال صرحت لأي جهة!
تحقيق: هبة محمود
يعاني “حي الشاحنات” وسط “الخرطوم” التهميش والعزلة وهو أحوج ما يكون للرعاية لأنه يقع في مستنقع من الإهمال والتردي البيئي بعد أن ارتضت السلطات لساكنيه العيش بمحاذاة المصانع، يتنفسون أدخنتها التي أعيت صدورهم دونما الالتفات لمعاناتهم أو الحالة الصحية التي يمكن أن تترتب على ذلك، هذا بخلاف المظهر العام المشوه بمخلفات المصانع والأوساخ المتراكمة والمتفرقة التي تتوسط حياً، يتوسط ، هو بدوره ،الصرف الصحي والمنطقة الصناعية، بينما لا يفصله عن مركز العاصمة “الخرطوم” سوى بضع كيلومترات.
إن ما رصدته (المجهر) ووثقت له بعدستها يجسد واقعاً مؤلماً لمنطقة تتوسط قلب “الخرطوم”، وواقع حالها يؤكد أنها ، كانت ومازالت (نسياً منسيا)..
آدمية مفقودة
عبثاً يحاول أبناء (حي الشاحنات)، إيصال أصواتهم للمسؤولين، وإقناعهم للالتفات إلى (حيهم) المهمل دون فائدة، بعد أن أصبح البحث عن أولى أبجديات الخدمات المتعارف عليها همهم الأول، سيما أنهم ـ أي سكان المنطقة ـ لا يسعون إلى رفاهية الخدمات، بل يطمعون في البسيط الذي يمكن أن تمن به عليهم السلطات المسؤولة وتشعرهم بآدميتهم المفقودة بعد أن قامت ذات السلطات بالترخيص لعدد من مصانع المواد الغذائية والزيوت والحديد بمحاذاة مساكنهم، فأحالت عافيتهم مرضاً، وسكونهم ضجيجاً.
ورغم أن الحي حديث الإنشاء، فقد تأسس في العام (1996م)، كتعويض لأهالي منطقة (مايو) جنوب “الخرطوم”، إلا أن المساكن بدت لنا ،وللوهلة الأولى، قديمة كوجوه كالحة أصابها الجدري، وكذلك الطرقات الرديئة، فأصبح واقع الحي وكأنه مطمور بالنسيان، رغم توسطه قلب العاصمة.
أدراج الرياح
بضع خطوات هي تلك التي تفصل منزل المواطن “عبد الله آدم” (نجار)، من مصنع الزيوت، الذي أنشئ بالقرب من منزله، فالرجل بدا لنا وكأن أعماراً أضيفت إلى عمره بعد أن أعياه التفكير في محاربة هذه المصانع وإزالتها، خاصة مصنع الزيوت الذي تنفث مكناته دخان (الفيرنس) وهو الدخان الأسود، الذي تمتلئ به باحات منازلهم وصدورهم وتزكم به أنوفهم.
يقول عبد الله لـ(المجهر)، أنا أعتبر من قدامى ساكني هذا الحي، وجميع المصانع أنشئت في العام 2010، فكيف للسلطات أن تقوم بالتصديق للمصانع بجوار المنازل، ويضيف اشتكينا مراراً وتكراراً وبحّت أصواتنا ولكن لا حياة لمن تنادي، فكل محاولاتنا ذهبت أدراج الرياح.
تقاسم الوجع
المواطنة “زينب هارون” (ربة منزل)، لا تقل معاناتها عن معاناة العم “عبد الله” في شيء، وربما كان هو أفضل منها، سيما أنها تعجز بحد قولها، من (تنويم) أبنائها التوأم في (الحوش) مخافة استنشاقهما الدخان الأسود، وجزمت بأن معاناتها في حالة انقطاع التيار الكهربائي تتضاعف لأنه يصبح عليها العمل على (تهويتهم تقليدياً) حتى عودة التيار مرة أخرى.
تناصفت “حواء حسن جمعة” (ربة منزل)، الحديث مع جارتها “زينب”، فكلتاهما تتقاسمان (الوجعة)، وتشربان من ذات الكأس، فـ (حواء) يعاني جميع أبنائها من السعال والنزلات بفعل استنشاقهم للدخان الناتج عن مصنع الزيوت تحديداً، وقبل التصديق لهذا المصنع، تقول: كنا بكامل عافيتنا، وبمجرد إنشائه عرف المرض طريقه إلينا، ورغم أننا كثيراً ما سعينا إلى إزالته بواسطة الطرق الرسمية، إلا أن الدولة لم تلقِ لنا بالاً ولمعاناتنا، ولا ندري ماذا نفعل.
تردي الخدمات
جملة من المشاكل والقضايا العالقة التي تؤرق سكان حي الشاحنات، دفع بها ابن المنطقة “سيف الدين محمد” (موظف بوكالة الأسكلا)، وهو يسرد لنا معاناتهم التي لم يتركوا باباً إلا وطرقوه من أجلها، والتي تتسيد قائمتها المصانع المصدق لها، دون الأخذ في الاعتبار وضع السكان والآثار الصحية والبيئية المترتبة علي ذلك، يقول “سيف”: المصانع باتت هماً كبيراً لنا ولا نعرف طريقاً لمحاربتها، ذهبنا في كل الاتجاهات ولا حياة لمن تنادي، ولم يتوقف الأمر حد المصانع، بل تعداه إلى تردي الخدمات للحي بأكمله، وخاصة في فصل الخريف الذي نعاني فيه الأمرين.
رغم سنواتها القليلة بالحي، (خمسة أعوام فقط)، إلا أن المواطنة “سامية محمد” (ربة منزل) بدت أكثر حنقاً على تلك الأوضاع المتردية التي يعاني منها الحي، ويعيشها السكان بصورة شبه يومية، سيما المصانع التي تخترق أدخنتها صدورهم ، ومن ثم تداهمهم الامراض، كل ذلك ولا يجدون من يلتفت إليهم من المسؤولين، مبينة أنهم يواجهون العنت في الحي الذي يفتقر إلى أبسط الخدمات، خاصة في فصل الخريف.
مشاكل صحية
مشاكل صحية متعلقة بالجهاز التنفسي بدأت تنتاب المواطنة “أميرة موسى” (ربة منزل) في الآونة الأخيرة، أرجعتها بدورها إلى الأجواء غير الصالحة التي يعيشها الحي جراء أدخنة المصانع، وخاصة مصنع الزيوت الذي لا يفصله عن منزلها سوى مجرى مياه صغير .
تقول “أميرة”: الأمر فاق حد الاحتمال في ظل دخان (الفيرنس) الصادر من مصنع الزيوت، فقد أحال ملابسنا ومفارشنا، وحتى أجسادنا إلى اللون الأسود، وأضافت: في إحدى المرات أفسد طعام مناسبة عقيقة شقيقتي فاضطرننا إلى رميه، وعندما ذهبنا إلى المصنع لم نجد من يفيدنا في الأمر، وزادت: مشكلة مصنع الزيوت تحديداً أرهقتنا ولا ندري ما الحل.
بحث يائس ومحموم يكاد يعيي رئيس اللجنة الشعبية لحي الشاحنات، السيد “عمار هاشم”، فبعد أن كان همه الأول والأخير، لفت أنظار المسؤولين والنظر بعين الاعتبار إليهم، وتقديم أبسط الخدمات لهم، أصبحت أمامه مشكلة ثانية وهي محاربة المصانع التي أنشئت محاذية لهم في العام 2010م، واعتبر “عمار” أن قضايا البيئة من القضايا المهملة في أجندة المسؤولين، وأنهم لا يكلفون أنفسهم مجرد النظر إليها، وقطع بمشاركته في عدد من الورش المتعلقة بالبيئة متناولاً قضية حي الشاحنات كنموذج ولكن دون فائدة.
أروقة المحاكم
ورغم أن الكثير من الناس يجزمون بعشوائية الحي، إلا أن هذه المعلومة بحسب رئيس اللجنة “عمار هاشم” ليست صحيحة، وقال: كثير من يعتقد ذلك ولكن الحي عبارة عن تعويضات لأهالي منطقة مايو من قبل وزارة التخطيط العمراني، ولكن أكثر ما يثير تساؤلاتنا هو كيف يمكن للسلطات أن تمنح تصاديق لإنشاء مصانع محاذية لسكن المواطنين، في الوقت الذي يعتبر المربع الذي أنشئت عليه هذه المصانع وهو مربع (35)، تعويضاً لمن تبقى من أهل مايو، فهل يمكن للحكومة أن تصدق بالمربع للمصانع ذات المخلفات الضارة؟ وتكتفي بأن تعوض ما بقي من مواطني مايو بشمال أم درمان؟
ومضى “عمار” مؤكداً على أنه ليست لديهم غضاضة ناحية الصناعات الخفيفة، مثل المواد الغذائية، لافتاً إلى أن مشكلتهم تكمن في مصنعي الزيوت والحديد ،والتي بلغ الأمر معها مبلغاً جعلها قضية في أروقة المحاكم
شظايا الحديد
وحول المجهودات المبذولة لرفع الضرر عن المنطقة، أشار محدثنا إلى أنهم لا زالوا يسعون للفت انتباه المسؤولين إليهم، وتفادي الآثار الصحية السالبة الناتجة عن التلوث البيئي للمنطقة، سيما أن أغلب الأمراض التي تسيطر على المواطنين صدرية، ناهيك عن الحوادث التي يمكن أن تقع جراء عمليات صهر الحديد التي تتم في مصنع الحديد، في إشارة منه إلى الحادثة الشهيرة التي شهدتها المنطقة عندما تناثرت المقذوفات الناتجة من صهر الحديد في منزل أحد السكان، ورغم أنها لم تؤدِ لإصابات، إلا أنها أثارت ذعر سكان المنزل وبلبلة المواطنين.
يقول “عمار”: رغم سعينا الحثيث وراء المسؤولين إلا أن الأمر يسير نحو الأسوأ، فها هي السلطات نفسها تقوم بالتصديق لطلمبة بنزين بجوار مصنع الحديد، فكيف إذا تطايرت مثل هذه المقذوفات في الطلمبة وما هو الخطر المترتب عليها، وأضاف: هناك اهمال تام للمنطقة، لا توجد تنمية متوازنة مقارنة بيننا وشمال “الخرطوم”، ولا ندري ما هي الأسباب، فهل أرواحنا أصبحت رخيصة لهذا الحد، وهل المصانع أعلى قيمة من الإنسان؟
تساؤلات عدة أطلقها رئيس اللجنة الشعبية، بعد أن أعجزه البحث عن من يقدم للحي يد المساعدة، فلم تجدِ الشدة واللين نفعاً.
تخوفات وتهديد
حالة من الخوف في عيون المواطنين لاحظتها (المجهر) وهي تستمع لمعاناتهم، فقد بدا أغلبهم خائفاً ومتخوفاً من حديثه لأجهزة الإعلام، وبدا ذلك جلياً بعد رفض بعضهم المشدد للحديث أو الافصاح عن هويته، وخاصة الأستاذة (ع)، معلمة بمدرسة الأساس، التي رفضت التصريح للصحيفة متذرعة بتلقيها تهديداً من إحدى الجهات بعدم التصريح لأي جهة ما، وذهبت وتركتنا وقد تأكد لنا أن المواطن في تلك المنطقة مغلوب على أمره، سيما أنه أمام خيارين، إما السكوت والإذعان أو تصريح مصحوب بتهديد.