انتحار "فضيلي"!!
يقبل الشاعر والأديب “فضيلي جماع” على الانتحار ، في قارعة الطريق وهو في خريف العمر ،بإقباله على خوض معترك سياسي لم يـألفه من قبل، ولا يملك له سلاحاً في غربته الاختيارية، كان مدهشاً رؤية “فضيلي” الشاعر المجيد، وابن “المسيرية” الذي طالت غربته عن الوطن الكبير والوطن الصغير، يهرع نحو “أديس أبابا”.. ليقف في ردهات فندق (ماريوت) مستشاراً للحركة الشعبية.. يجلس الساعات في انتظار (تنويرات) من المفاوضين عن مسار الأحاديث في الغرف المغلقة.
بدا د.”حسين حمدي” حزيناً منكسراً لا انكسار ضعف، ولكنه حسرة على شاعر مجيد وكاتب أنيق العبارة، يذهب لأحضان (آيدولوجيا) سياسية، ولا يعتبر من تجربة أديب آخر هو “إسماعيل آدم أبكر” ابن قرية (لابدة) ضواحي “الفرشاية” قرب “الدلنج”، و”إسماعيل” يعطي الحركة الشعبية وقته وفكره.. ويجمل ندواتها في المنافي البعيدة وتتخذه الحركة الشعبية مطية ،وتزهو بأنها مستودع لقيم ثقافية ومشارب متعددة لهويات “السودان” الضائع بين طموحات الساسة ومصالح العسكر.. أنفق (ود أبكر) وقته.. ووظف قدراته الفذة في التعبير وعمقه المعرفي من المدن المستحيلة إلى حواف الأمكنة، لمصلحة الحركة الشعبية ونظريتها التي باتت كالعقيدة الجديدة :(الهامش والمركز).. ولكن متى احتملت الحركات المسلحة التي يسيطر عليها العسكر المحترفون والعسكر المزيفون آراء وأفكار أمثال (ود أبكر).. وسيأتي من بعدهم بعد قليل “فضيلي جماع” ، الذي لم يعرف عنه من قبل نزوعاً للسياسة ،إلا من خلال انتماء قشري لليسار العريض.. وقد قال د.”حسين حمدي” للشاعر “فضيلي جماع” : ما الذي يجعلك بعيداً عن الديار والأهل؟.. و”فضيلي” يردد عبارات السياسيين التي يتم بيعها للعامة وللأجانب عن اغتصاب الفتيات في “دارفور”، وحرق القرى والتطهير العرقي.. والإبادة في جبال النوبة.. ويضحك د.”حسين حمدي” من سذاجة شاعر أركبه الزمان سرج السياسة المعوج.. فتاه في دروبها ،فأخذ يرسل صدر البيت من الشعر ويعجز عن إتمام عجزه.. ويقول “حسين حمدي” : فلنذهب معاً من “الخرطوم” براً إلى “كوستي”.. و”الفولة” و”بابنوسة” و”الضعين” و”أبو كارنكا” ونبلغ “الجنينة” ، ونعود معاً لجبال النوبة.. أذهب للمناطق التي تسيطر عليها الحركة.. وتقصى بضمير المثقف لا بضمير السياسي.. وأكتب في دفاتر غربتك بصدق ما رأته عيناك، وما روته لك الأمهات والأخوات.. ولكن مثلك لا يليق به السير في ركب الحركات المتمردة بلا بصيرة ولا ضمير!
“فضيلي جماع” متمرد جديد، يرفض حتى نشر صورته في الصحافة السودانية، يزعم أنها صحافة تعبر عن ضمير النظام الحاكم ، ولا يرغب في التواصل مع السودانيين من خارج منظومة الحركة الشعبية، وقادة الحركة الحقيقيون يتحدثون مع الصحافة بود واحترام، وشخصيات مثل “مبارك أردول” يتواصلون مع كل الناس بلا حواجز، كالتي يصنعها “فضلي” لنفسه، ويسجن إبداعه وشعره في (حظائر) السياسيين، ولا يتعظ من تجارب المبدعين الذين ركبوا من قبله قطار السياسة ، فهبط بهم إلى السطح، فقد كان “وردي” مغنياً للمعارضة واكتشف حقيقتها وعاد لوطنه ليجد التكريم الذي يستحقه.. وكان “الموصلي” يعزف موسيقى النضال، و”محمد المكي إبراهيم” ،يكتب عن تسليم مفاتيح البلد.. وفي العام الماضي يحتضن “أحمد هارون”، ويعتذر عن خطـأ تقديره لمآلات الأمور.. وكان العشرات من المبدعين والشعراء والكتاب وأهل الغناء.. يحسبون أنفسهم طلائع الثورة التي ستأتي على رماح المقاتلين.. ولكنها لم تأتِ، لأن وقود الثورات هي الشعوب الذكية التي تميز بين الأشياء، ولا يتعلم الأستاذ الشاعر “فضيلي جماع” من تجارب غيره.. ويرمي بنفسه في أحضان الحركة الشعبية التي تتخذه مستشاراً لها في قضايا وقف العدائيات ووقف إطلاق النار والفصل بين المقاتلين.. و”فضيلي جماع” في حياته لم يقتل (وزينة) في رهد.. ولم (يضرب) طلقة في حفلة زفاف.. وتلك من سماته السمحة، لأن الكلمة عند “فضيلي” أمضى من السلاح.. لكن “فضيلي” يا للحسرة يبيع كل عشاقه في الداخل بثمن غير معروف، ومؤجل (القبض) حتى تدق جحافل جيوش أطراف “أم درمان” ليجد “فضيلي” المسرح بلا جمهور، ويغني لنفسه قصة الانتحار في أحضان حركة مسلحة.