رأي

خربشات الجمعة

(1)
{ أماسي أديس أبابا الحالمة بالموسيقى في المقاهي العامة تجعل من الزهرة الجديدة منتجعاً للثقافة والفن الأفريقي.. والموسيقى السودانية تتدثر بثياب اللغة الأمهرية والتغرنجا في الدولة الحبيبة للسودانيين حتى باتت قبلة لأهل السياسة يبحثون في مشافيها عن علاج لأمراض الوطن وعلله الكثيرة.. وما مفاوضات السلام إلا صورة واحدة من صور متعددة للوجود السوداني الكثيف في زهرة أفريقيا.. مليارات الدولارات خرجت من الخرطوم لأديس أبابا لأسباب أولها فساد المناخ الاستثماري هنا، والعقوبات الاقتصادية الأمريكية التي تجعل تحويلات المستثمرين إلى أوروبا للحصول على البضائع أمراً صعباً وشائكاً جداً.. لذلك هربت رؤوس الأموال من الخرطوم إلى دبي والشارقة وأديس أبابا، وحتى إلى جوبا عاصمة الجنوب.. في قلب أديس أبابا (مطعم سوداني) يقدم وجبات على طريقتنا الشعبية.. “كسرة بأم رقيقة” و”بالبامية” وفول على الطرقة السودانية، ويلتزم المطعم السوداني في أديس أبابا بأدبيات وأخلاق هذا البلد، لا يقدم الخمور مثل سائر المطاعم.. ولا يفتح صالة للغناء والرقص مثل بقية المطاعم.. ولا هو مطعم (إسلامي) يحرم الاختلاط بين الجنسين.. وقد خُصص جزء منه لمدخني (الشيشة) بعيداً عن رواد المطعم الذين يغلب عليهم الالتزام السلوكي، ما جعله قبلة للإثيوبيين من علية القوم.. وهناك يرتاد الوزراء والمسؤولون الحكوميون الأسواق والمطاعم مثل سائر المواطنين، ولا تسمع أصوات سيارات النجدة التي تتقدم ركب المسؤولين صغيرهم وكبيرهم وضيعهم وشريفهم مثلما يحدث هنا.. باستثناء (تشريفة) رئيس البلاد، لن تتقدم موكب المسؤولين من دونه صافرات إنذار.. وقد تفتقت عبقرية المسؤولين (عندنا) لتركيب جهاز إنذار في سيارات المعتمدين والوزراء الولائيين وقادة الشرطة والجيش وأصبحت السيارات المظللة تصدر من تلقاء نفسها أصوات إنذار لشق الطرق وتعطيل مصالح الناس حتى يبلغ المسؤول مقصده حتى لو كان معاودة امرأة حبلى من أقربائه أو لتناول غداء عند صديق قادم من حج أو عمرة.
{ جلسنا يوم (السبت) الماضي في المقهى السوداني بأديس أبابا، في انتظار مباراة كلاسكو الأرض بين برشلونة وريال مدريد نتحلق حول شاشة كبيرة.. وتعليق بالعربية لـ”رؤوف خليف” و”عصام الشوالي” الذي لا يخفي تشجيعه للفريق الملكي الريال وحبه لـ”رونالدو” و”بنزيمة” وبطبيعة الحال مقته لبرشلونة.. انقسم الوفد الحكومي الرياضي الذي جلس في المقهى.. وقف د.”أمين حسن عمر” واللواء “دخري الزمان عمر” إلى صف برجوازية أسبانيا وملوكها الذين يمثلهم فريق الريال، بينما وقف د.”محمد مختار” والأستاذ “مجدي” مدير مكتب “أمين” والأستاذ “عادل الباز” إلى جانب برشلونة الذي يمثل فقراء أسبانيا المتطلعين للانفصال عن الدولة الأم.. وتوافدت الوجوه السودانية من الوطن الشمالي والوطن الجنوبي نحو المطعم الأنيق يشجعون كأن الفريقين هما الهلال والمريخ.. قبل بدء المباراة والجميع في انتظار صافرة الكلاسكو اختار صاحب المطعم السوداني أن يقلب على السودانيين المواجع وهم في غربة عن الوطن، فانبعث صوت (بنات طلسم) “هادية” و”آمال” و”حياة” يرددن أغنية ربما كتبت خصيصاً لدغدغة مشاعر سودانيي الشتات وهي تمتلئ بالحنين للوطن والحسرة على الفراق المكتوب:
نلقى وين طيبة أهلنا
أو وطن يشبه وطنا
نحن والله ظلمنا روحنا
لما هاجرنا ورحلنا
لكن الجنوبيين من أبناء “النوير” الذين كانوا حضوراً في المقهى يجترون ذكرياتهم في الكلاكلة وجبل أولياء وسوق ستة بالحاج يوسف، مثلما نجتر نحن في الوطن الشمالي ذكرياتنا الخاصة في جوبا وملكال ومريدي ويامبيو.. ونتحسر على الذي حدث و”يوسف فتاكي” ابن قبيلة الكاكو لا يغني فقط لجوبا ولكنه يصدح بأغنيات الحقيبة، ويجمل ليل مدينة ياي بأغنية كتب كلماتها “حميدة أبو عشر” وغناها “عبد الحميد يوسف”: (غضبك جميل زي بسمتك).
يتذكر الجنوبيون كل تفاصيل الخرطوم، وقد أصبح “بيتر ماتلوق” أجنبياً وهو المولود في الكلاكلة، وأصبحت “ترايزا سبت” من زاندي يامبيو لا تدخل الخرطوم إلا بتأشيرة وتقف في صف الأجانب.. ولن تجد تعبيراً دقيقاً لوصف حالنا أبلغ من غناء “يوسف الموصلي” الوسيم الشفيف وهو يتكئ على ما كتبه ابن الكتياب “عبد القادر”:
أشوف قرشك يسير في السوق
وأشوف قطنك ملاية على البحر والبر
كفن لي من كتف خيلك
سرق خيرك
لا خلى الصغير يكبر
ولا خلى الكثير يكتر
ولا يابس ولا أخضر
فرض علينا د. “أمين حسن عمر” صاحب الدعوة أن نذهب لصالة الطعام قبل انقضاء الشوط الأول من مباراة الريال وبرشلونة بعد أن أيقن د.”أمين” بحسه الرياضي أن ليلة (السبت) هي ليلة القبض على (بنتيز) ولا داعي أن يطول انتظاره أمام الشاشة لانتصار لن يأتي في ذلك اليوم دعا الجميع لتناول وجبة عشاء من الفول والطعمية التي يحبها السودانيون وأينما ذهبوا تجدهم يهرعون للمطاعم السودانية.. ولكن الجنوبيين في الشتات والمنافي لا يعدّون أنفسهم غرباء في مجالس بني جلدتهم، لأن الوجدان واحد.. لكن السياسة مزقت أحشاء الوطن وجعلتنا حينما نلتقي “النوير” و”الدينكا” نتذكر قصة الجعلي الذي تزوج من رومبيك وتمسك بالبقاء في أحضانها.. لكن أسرته أرغمته على العودة لدار جعل وقلبه معلق بديار الدينكا.. وفي إحدى الأمسيات جلس أمام منزل والده فهبت نسائم الخريف من جهة الجنوب وتغلغلت في وجدانه وتذكر الجنوب وزوجته التي هجرها مكرهاً.. فانشد قائلاً:
ست القرقردي الواقف مسامير نُقلة
كل ما أتذكرك تتبرجل عليّ الخدمة
غادرنا المطعم السوداني مع الصديق العزيز “عادل الباز” في هجعة الليل وبلغت النشوة بانتصار برشلونة على الريال ذروتها لأننا شعب نبحث عن أي انتصار حتى لو كان في لعبة (الدومنة).
(2)
{ اختار الدكتور “إبراهيم آدم” وزير الدولة بالرعاية الاجتماعية الاحتفاء يوم الثلاثاء الماضي بأبناء جبال النوبة العائدين من الولايات المتحدة الأمريكية بمنزله بحي المطار أو الخرطوم شرق.. بحثت عن منزل “إبراهيم آدم” في الحي الذي يعدّ رئاسياً لوجود أغلب وزراء الحكومة وكبار المسؤولين المتنفذين في السلطة، لكن في ذلك الحي يصعب أن تجد من (يدلك) على المنزل الذي تبحث عنه، حتى منسوبي الشرطة الذين يتولون حراسة كبار المسؤولين لا تتعدى حدود معرفتهم المنازل المحيطة بمقارهم وربما لأسباب أمنية لا يدلون التائهين من أمثالنا على مقاصدهم.. حينما بلغت المنزل تأملت المسافة من قرية (أم جمط) مسقط رأس “إبراهيم آدم” وحي المطار الذي لا يقطنه إلا علية القوم وكبار المسؤولين.. و”إبراهيم آدم” زعيم حزب شريك أصبح رئيساً له بعد رحيل “الزهاوي إبراهيم مالك”.. توافد على المنزل الفخيم بعض من قيادات حزب الأمة منهم “إدريس القيد” الذي عين في منصب المعتمد بشمال كردفان، لكن قراره لم يصدر بعد.. و”إدريس القيد” مصرفي فقد موقعه بالبنك السوداني الفرنسي في النصف الأول من التسعينيات بسبب (موالاة) حزب الأمة، وكان هناك “ياسر عبد الصمد مختار” ابن “قليصة” الذي خرج من صلب أسرة عريقة في تلك البلدة.. وجاء د. “سليمان عبد الرحمن” الذي فوجئت بإبعاده من حكومة شمال كردفان دون أسباب.. وربما كان لصلة الرحم بشيخ “علي عثمان محمد طه” علاقة بإبعاده، فالثورة الآن تأكل بنيها بلا رحمة وإلا فكيف يجلس أمثال د. “سليمان مرحب” في الأرصفة لا في مكان لهم في الجهاز التنفيذي ولا السياسي.. وجاء الأمير “عبد الرحمن الصادق” و”عمر سليمان” وبروفيسور “كبشور كوكو” في تواضع العلماء، والرجل يعدّ الثاني بعد “البشير” في حزب المؤتمر الوطني باعتباره رئيساً لمجلس الشورى.. وجاء نواب البرلمان د.”عبد القادر سالم” و”سارة أبو”، وجاءت “تابيتا”، وجاءت (بنية دارفور) “أميرة أبو طويلة”.. وغنى في الاحتفالية الأنيقة مطرب شاب كان وفياً لرواد الأغنية الكردفانية طلب من أستاذته “عبد القادر سالم” و”عبد الرحمن عبد الله” أن يرددا معه (جدي الريل أبو عزيمة) و(أنا كردفان أم الجمال) التي جعلت “الصادق الرزيقي” نقيب الصحافيين و”سارة أبو” ينهضان من مقعديهما للتبشير فرحاً، ويغسل الفن الأصيل الدواخل المحزونة بماء الورد وحلو الكلام.. وفي منتصف الليل.. كما يقول “عبد الركيم الكابلي” في رميته الشهيرة يحلو السمر، فقد غنى بلوم الغرب “عبد الرحمن عبد الله” لـ”كباشي” سائق اللوري الشهير:
كباشي لو برضى وصلني ود بندة
كباشي سيد الذوق وصلني ود دردوق
نحضر خضار السوق
ورقص “أزرق زكريا” ودمعت عيناه لوفاء أبناء كردفان الكبرى الذي جسده “إبراهيم آدم” وهو لا يميز بين جنوب وغرب وشمال ويسهر بنا حتى منتصف الليل، ونعود في ذلك المساء والكل يردد:
البارح أنا وقصبة مدالق السيل
في ونسة وبسط لمن قسمنا الليل
وكتين النعام اشقلبنو الخيل
لا جارت ولا بخلت عليّ بالحيل
وكل جمعة وأنتم بخير..

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية