أبيي من لاهاي لأديس.. خديعة وآمال سراب
عادت أبيي مرة أخرى لتشكل عقبة كؤود، وصخرة تكسرت عندها أشرعة سفينة العلاقة بين (السودانين) الشمالي والجنوبي، وعطّلت أبيي توقيع الاتفاق النهائي بين الخرطوم وجوبا (الأربعاء) الماضي بعد اختلاف (الرئيسين) بصورة مفاجئة قبل لحظات من طيّ صفحات الخلاف المتطاول، وبسبب قضية أبيي اختلف الطرفان في نقطتين (جوهريتين)، الأولى عن آلية استفتاء مواطني أبيي المنصوص عليها في اتفاقية السلام، والتعديل المقترح من لجنة الوساطة الأفريقية (بتدخل) ناعم من قبل الاتحاد الأفريقي برئاسة لجنة الاستفتاء، ووجد مقترح “أمبيكي” تأييداً من جهة دولة الجنوب ورفضاً من الرئيس “البشير”.. ثم (احتدم) الخلاف مرة أخرى حينما اقترح الوسيط “أمبيكي” إجراء الاستفتاء في تشرين/أكتوبر العام القادم، ورفض الشمال ذلك باعتبار أن عرب المسيرية يمضون شهر أكتوبر بطبيعة الحال في رمال شمال كردفان.. وأطل قانون الاستفتاء برأسه من جديد، وهو قانون عجز البرلمان الانتقالي (المعين) عن (تمريره) للخلاف حول بنود القانون بين منسوبي المؤتمر الوطني والحركة الشعبية حينذاك.. والآن يرفض “البشير” مقترح إجازة قانون استفتاء أبيي في برلمان الدولتين ويتمسك بحق السودان في إجازة القانون تبعاً لحقوقه القانونية، باعتبار أبيي حتى اليوم جزءاً من شمال السودان!!
ومن (المفارقات) أن “دينق ألور” وزير شؤون الرئاسة في حكومة الجنوب هدّد وتوّعد بنقل قضية أبيي إلى مجلس الأمن بعد إخفاق (الرئيسين) في تفكيك جُزيْئاتها والتوافق على حل يبدو مستحيلاً، والمفارقة في تهديد “دينق ألور” أن مفاوضات أديس أبابا جرت تحت سقف القرار (2046) الصادر عن مجلس الأمن، وأن الاتحاد الأفريقي في هذه القضية على وجه الدقة يمثل (وكيلاً) معتمداً عن مجلس الأمن، ومقترحات “أمبيكي” والخارطة التي طرحها والتي (يسميها) البعض باسمه هي في الواقع خارطة طريق لمجلس الأمن الدولي يتم تمريرها من خلال قنطرة أو جسر الاتحاد الأفريقي والآلية الأفريقية رفيعة المستوى. وبدأت قضية أبيي تأخذ منحى دولياً حينما ارتضى المؤتمر الوطني والحركة الشعبية مبادرة السيناتور “جون دانفورث” التي عُرفت بالفصل الرابع من اتفاقية السلام الشامل الموسومة بمبادئ الاتفاق حول أبيي مقدمة من المبعوث “جون دانفورث” في 19 مارس 2004م بنيروبي، ووقع عليها الطرفان كمبادئ حل وليس اتفاقاً نهائياً، حيث آثر “علي عثمان” و”جون قرنق”- حينذاك- الهروب من أبيي إلى الأمام حتى لا تفسد عليهما إنجازهما التاريخي بالوصول إلى اتفاق بشأن حرب تطاولت.. وقبل الطرفان بمبادئ اتفاق (مفخخ)، كل بند يتحمل أكثر من تفسير ومعنى، وارتضت حكومة السودان بالسفير الأمريكي الذي طردته في التسعينيات من الخرطوم ليصبح حكماً عادلاً بينهما، والحركة الشعبية كسبت لأسباب سياسية إلى صفها وجانبها أغلب المبعوثين الأوروبيين وأوصد الأمريكان الأبواب في وجه العرب جميعاً من الدخول في الشأن السوداني.. وحتى المبادرة العربية الوحيدة التي طُرحت حينذاك وعُرفت بالمبادرة المصرية الليبية أجهضها الأمريكان باعتراف “هيلدا جونسون” في كتابها (اندلاع السلام)، وحينما أثار تقرير خبراء أبيي غضب الحكومة السودانية وجماعات عرب المسيرية حلفاء المؤتمر الوطني، تم نقل القضية من داخل السودان إلى محكمة التحكيم الدائم في لاهاي من خلال مخطط ناعم بدأ من وزارة الشؤون الإنسانية التي طرح وزير الدولة بها حينذاك (خارطة طريق أبيي)، لتقود الخارطة بأبعادها الإنسانية الحكومة معصوبة العينين وقبيلة المسيرية (مكرهة) لا بطلة إلى الديار الهولندية، وهناك ذُبحت بقرة أبيي ونال دينكا نقوك من خلفهم حكومة الجنوب لحمة الفخذين وعظم الظهر، ولم يظفر المسيرية إلا (بالأظلاف) وقليل من (الأعفاج) الذي تساقط بين يدي السفير “الدرديري” ومن تبعه من المسيرية.. فكيف يطالب ويهدّد “دينق ألور” بمجلس الأمن والقضية في الأصل تم تدويلها منذ نيفاشا حينما وقع السودان الشمالي على إعلان مبادئ اتفاق يجعل للأجانب من الإفرنج والأفارقة الغلبة والكلمة الفصل في مفوضية ترسيم حدود أبيي!! وضمت تلك المفوضية من جهة الحكومة منسوبين للمسيرية من أهل الثقة لا من أهل الكفاءة، وتفاجأ هؤلاء بتقرير لولا فطنة الرئيس وصلابة موقف الدكتور “نافع علي نافع” لذهب ثلث أراضي ولاية غرب كردفان إلى أبيي، وهي الأرض التي تقطنها مشيخات دينكا نقوك التسع واقتُطعت من بحر الغزال وضُمت لإقليم كردفان بقرار إداري عام 1905م.. ومن حسن حظ المسيرية أو حكومة الشمال الحالية والمؤتمر الوطني الحاكم، أن مفوضية ترسيم حدود أبيي لم تفطن لأخطاء جوهرية في تقريرها حينما انتابها إحساس بالقوة الزائفة والتعالي الأجوف، وهي تعترف في مقدمة تقرير بأنها لم تعثر على تحديد دقيق لحدود مشيخات دينكا نقوك التسع لكنها (تعتقد) أن الخارطة المرفقة هي المنطقة التي اقتُطعت.. وكلمة اعتقاد تفيد (الاحتمال) ولو استخدمت اللجنة صيغة التأكيد والجزم لذهبت أطراف المجلد اليوم لجنوب السودان كما ذهبت مناطق مثل كاكا التجارية، ويهدّد “دينق ألور” حكومة السودان بمجلس الأمن!! وقد كان “ألور” وزيراً لخارجية السودان وهو مدرك لضعف موقفها في الشأن الخارجي منذ مفاوضات نيفاشا وحتى اليوم، ودولة الجنوب حديثة العهد بالملاعب الدولية تهدّد السودان ليقينها وثقتها في أصدقائها الأوروبيين والأفارقة الذين (يشدون) من أزرها، ويقف السودان في كل محفل دولي مكشوف الظهر، حتى الصين التي حملها السودان على أكتافه لتدخل القارة الأفريقية مستثمراً في النفط والذهب، نأت بنفسها عن مفاوضات أديس أبابا، وتم (تحييدها) والدول العربية من السعودية حتى مصر والكويت والجزائر وتونس وقطر والإمارات تركت السودان وحده يواجه مصيره وأقداره.. لم (تعين) السعودية مبعوثاً لها إلى السودان مثل ألمانيا وفرنسا وأمريكا وكندا، وغاب الدور العربي في أديس أبابا مثلما شكل غياباً في نيفاشا، والاتحاد الأوربي يبعث بوزير خارجيته أو منسق السياسة الخارجية لأثيوبيا ليضغط على الأطراف في ظاهر الأمر وعلى الخرطوم في واقعه، والدول العربية تتابع أخبار المفاوضات وتشغلها قضايا انخفاض أسعار (البورصة) في سنغافورة أكثر من ضعف موقف السودان الذي تركه العرب يتيماً في مأدبة اللئام، مع أن نصف مشاكل السودان سببها الجوهري إعلاء السودان لانتمائه العربي على حساب انتمائه الجغرافي لأفريقيا، و(رهان) الساسة السودانيين على الأمة العربية بأنها (ستصحو) يوماً من غفوتها وتشد أزره وتدفع عنه تكالب الثعالب والطحالب.. لكن السودان للمرة الثانية خذله العرب وتكالب عليه الأفارقة، ومفاوضات أديس أبابا شاهد إثبات على ما نقول!!
{ (الرئيس) مفاوضاً و”الدرديري” عائداً
زُجّ بالرئيس “عمر البشير” في المفاوضات للتقديرات الخاطئة لوفد التفاوض في أديس أبابا.. والمفاوضات قبل أن تبلغ مرحلة النضج وبلورة رؤية كلية عن الاتفاق المرتقب توقيعه (دعت) الوساطة الرئيسين لساحة التفاوض وفق (مخطط) ماكر.. مثلما دعا الوسطاء من قبل “علي عثمان” و”جون قرنق” لمفاوضات نيفاشا وتم إنهاك الرجلين في تفاوض أثار الملل والضجر في نفسيهما، وتم إغراقهما في لجّة تفاصيل فنية لا شأن للقادة والرؤساء بها، لتخرج نيفاشا باتفاقية يصعب تنفيذها.. وبغياب “جون” الأبدي برحيله المفاجئ (ماتت) الوحدة، وبات انقسام السودان مسألة وقت.. وقد كان.. واليوم (زُجّ) بـ”البشير” و”سلفا كير” في تفاوض عقيم وشائك تطاول لست جلسات، وتعرض الرئيسين لضغوط شديدة، وكان أحرى بلجان التفاوض إعداد إعلان مبادئ سياسي لا يغوص في تفاصيل المشهد التفاوضي ولا القضايا محل الخلاف، ويوقع الرئيسان على اتفاق سياسي على حل كل القضايا الحدودية والأمنية والاقتصادية بحوار سياسي عبر لجان متخصصة، ويذهب كل رئيس في سبيله حتى موعد الاتفاق النهائي ولو بعد ستة أشهر، بعد أن أخفق الطرفان خلال ست سنوات هي عمر الحكومة الانتقالية في حسم القضايا الخلافية و(تُركت) كل القضايا لعامل الزمن، حتى أصبح الصبح والدولتان على شفا حرب بينهما.
وقد انضم لوفد السودان المفاوض السفير “الدرديري محمد أحمد” العائد في إجازة من بريطانيا حيث يقيم هناك منذ فترة ليست بالقصيرة يدرس في إحدى الجامعات لنيل درجة الدكتوراه، ووجد نفسه في لجّة التفاوض مع رفقاء الدرب الطويل وزملاء نيفاشا الذين عادوا مرة أخرى لواجهة الأحداث، لكنهم استبدلوا هذه المرة شيخهم “علي عثمان” بشيخ آخر الفريق “عبد الرحيم محمد حسين”، وغياب “علي عثمان” عن ساحة هو عرابها وحقل هو زارع فوله وبصله وعدسه يثير علامات استفهام من القصر حتى شارع المطار، حيث مقر الحزب الحاكم (المؤتمر الوطني)، وهو يراقب المفاوضات وكل أمناء الحزب وقادة القطاعات والقابضين على مفاصله (بعيدين) عن المفاوضات، وباستثناء الدكتور “صابر محمد الحسن” أمين القطاع الاقتصادي في حزب المؤتمر الوطني فإن بقية المفاوضين يستمدون وجودهم في الحزب إما بالنفوذ التنفيذي أو الإحاطة بالقيادة العليا كيف تفكر وماذا تريد وتحب وتكره.. وعجباً لحزب حاكم يخوض مفاوضات مفصلية لها تأثيرها على وجوده ولا أثر لقادة الأمانة السياسية، والأمانة الخارجية، وأمانة المرأة وقطاعات الحزب الفاعلة، وبعض أعضاء وفد الحكومة المفاوض لا صفة حزبية تؤهلهم للتفاوض نيابة عن الحكومة، ولا موقعاً في الجهاز التنفيذي يبرّر وجودهم في أديس أبابا.. هذا ما يتعلق بحزب المؤتمر الوطني، والأمر الأكثر إثارة للسخرية حدّ البكاء، أحزاب الحكومة (الشريكة) التي تشكل غياباً شبه كامل عن مشهد التفاوض و(ترضى) بمواقعها الوزارية الوثيرة، ولا تتوق إلى دور سياسي.. والاستثناء هنا الأمير “عبد الرحمن الصادق المهدي” الذي (جرّب) حظه في تقريب وجهات النظر بين الأطراف.. لكن أين الحزب الاتحادي الديمقراطي والسيد “محمد عثمان الميرغني”، والرجل له علاقات واسعة في الجنوب، وكان أحرى بالرئيس أن يصحبه في رحلته هو و”جلال يوسف الدقير” والسيد “الصادق المهدي”، لكن في الطائرة الرئاسية الفخيمة اختار الرئيس إلى جواره القيادي في الحزب الاتحادي الديمقراطي ووزير التربية بجنوب كردفان الشيخ “يوسف بشير”، ولأول مرة منذ انقسام الإسلاميين يختار القصر أحد رموز وقيادات حزب المؤتمر الشعبي لمرافقة الرئيس، وأخذ اللواء “الزبير إبراهيم كرشوم” مقعده في الطائرة الرئاسية لتعزيز موقف وفد التفاوض في أديس أبابا، حيث لعب مولانا “أحمد هارون” والي جنوب كردفان دوراً في مرافقة الوزير “يوسف بشير” و”الزبير كرشوم” للرئيس.. و”هارون” له نفوذ واسع في القصر ويعدّه الرئيس أحد رجاله الأوفياء المخلصين، وتقارب الرئيس و”هارون” بعد مطالبة المحكمة الجنائية بتوقيف الثاني.. ويرجّح أن المحكمة الجنائية طالبت بتسليم “البشير” لموقفه الأخلاقي الرافض للتضحية بـ”هارون”، وما أكثر الرؤساء الذين يضحون برجال حولهم حذر الموت، ولكن “البشير” ظل حريصاً على بقاء “هارون” قريباً منه، وستعصف الأوضاع في ولاية “أحمد هارون” بأي اتفاق يتم توقعيه مع الجنوب قبل أن تصمت أصوات المدافع في الولايتين، و”كمال عبيد” رئيس وفد التفاوض للمنطقتين أوفى بعهده وصان كلمته ولم يفاوض قطاع الشمال أو يصافح قادته ورموزه، الذين كانوا يراقبون المفاوضات من فندق (الشيراتون) مثل صبي تشاجرت والدته مع أبيه وبات الوالد والأم على حافة الافتراق والطفل دامع العينين يتذكر قلب والده وحضن أمه، وحال قطاع الشمال إذا اتفق (الشمال والجنوب) تبدد حلمهم، وإذا انهارت المفاوضات عادوا فرحين مستثمرين في خلافات البلدين، ود. “كمال عبيد” يستحق احتفالاً من منبر السلام، وتكريماً من كل الرافضين لمبدأ التفاوض مع قطاع الشمال، ولكن كادوقلي الآن تستعد لنصرة أمير مؤمنيها بدعم رؤية الوالي حول التفاوض، وقد بدأت الاستعدادات لعقد ملتقى الشهر القادم تحت اسم أهل المصلحة، لتتسرب أدبيات دارفور وتتسلل لمخادع السياسة في جبال النوبة.. لكن ملتقى كادوقلي هل هو لتعزيز رؤية الوالي ودعم موقفه شعبياً وسياسياً والرجل ظهره مؤمن مركزياً؟ أم هو ملتقى (فعلاً) لأهل المصلحة يخاطبه د. كمال عبيد؟!