بعد أن نصحه الأطباء بالتنحي…من يخلف "الميرغني"؟
هل هي بداية النهاية لعصر (ديناصورات) السياسة السودانية؟
تقرير- محمد إبراهيم الحاج
لم تتح لأغلب الأجيال الحديثة تجريب ما يمكن تسميته بتنوع القيادات السياسية في الأحزاب السودانية، ولم تتح لأغلب المشتغلين أو المتابعين للشأن السياسي بالبلاد معاصرة صراع سياسي ديمقراطي داخل أحد أحزابنا السياسية، لاختيار رئيس لها أو زعيم والتي دخلت معترك الحياة السياسية في وقت مبكر قياساً برصيفاتها في محيطها الإقليمي، لأن الجيل الحالي والذي سبقه تفتحت عيناه على أسماء بعينها كانت هي (القائدة) و(الملهمة) والمسيطرة على الفعل السياسي داخل أحزابها وداخل البلاد، ولا تنتهي سطوة هؤلاء القادة إلا بالرحيل أو الانقلاب، ولهذا فإن ثمة سطر جديد قد يكتب داخل أحد أكبر الأحزاب السياسية التي لعبت ولا تزال دوراً مهماً في الحياة السياسية منذ نشأتها وهو الحزب الاتحادي الديمقراطي الذي يعيش حالة من الانقسام غير المعلن بداخله نتيجة صراعات قادته حول المشاركة في الحكومة، فالخبر الذي تصدر (مانشيت) أولى (المجهر) أمس يتحدث عن ورود أنباء عن نصائح طبية لمولانا “محمد عثمان الميرغني” بترك العمل العام وعن التدخل في شؤون الحزب والطائفة، من شأنه أن يعيد تنظيم أو بعثرة كثير من الأوراق داخل حزب الحركة الوطنية، وهو كذلك من شأنه أن يثير كثيراً من الجدل حول ماهية الأعمار السياسية لكثير من قادة الأحزاب السياسية التي مضى البعض إلى تسميتهم لفرط تشبثهم بمواقعهم بالـ(ديناصورات).
وهو توصيف لم تخرج من عباءته كثير من الأحزاب التقليدية ولم تنج منه الأحزاب الحديثة مثل الحزب الشيوعي وأحزاب الحركة الإسلامية.
قادة للأبد
تبدو القضية أعمق من تنحي مولانا “محمد عثمان الميرغني” بحسب نصائح الأطباء، وتتجذر لتصل إلى عصب التركيبة المؤسسية لكثير من أحزابنا السياسية التي تنضح فيها صفة فردية القيادة..وقد تصبح بالتالي قضية تسعى أهميتها بين غالبية تلك الأحزاب التي تعاني كثيراً على مستوى تأسيسها الداخلي، وتصبح بالتالي عاجزة عن الدفع بقيادات شابة لها القدرة على مسايرة الواقع المحلى والإقليمي والدولي.
لا يقتصر الأمر على حزب الحركة الوطنية وحده فالإمام “الصادق المهدي” المولود في (25 ديسمبر 1935) وتم انتخابه رئيساً لحزب الأمة في 1964 وأعيد انتخابه أكثر من مرة، وكذلك د.”حسن الترابي” الذي ظل بمثابة الملهم والمفكر الأوحد للحركة الإسلامية منذ منتصف ستينيات القرن الماضي وحتى الآن، رغم ما أثير مؤخراً عن تنحيه عن العمل السياسي والحزب وتفرغه للكتابة والدعوة ولكنه لا يزال عراب الحركة الإسلامية. و”محمد إبراهيم نقد” الذي قضى ما يقرب من الأربعين عاماً سكرتيراً للحزب الشيوعي السوداني حتى انتقل إلى رحمة مولاه وأتى خلفه “محمد مختار الخطيب”، كل هذه النماذج من قيادات أعتى الأحزاب السياسية بالبلاد تؤشر أن ثمة خلل واقعي لما أطلق عليها أحد المفكرين (محميات) وليست أحزاباً سياسية ذات برامج وفكر ورؤى، وبهذا تنأى أغلب تلك الأحزاب عن ما يمكن أن نسميه بالمؤسسية المعروفة في الأحزاب المعروفة في العالم، وهو ما يؤكده المحلل السياسي د.”صلاح الدومة” الذي وصف في حديثه لـ(المجهر) كثيراً من أحزابنا السياسية بـ(غير الطبيعية)، وأنها ليست كالأحزاب في الدول الأخرى التي تقوم على بنية أيديولوجية، مشيراً إلى أن أحزابنا تقوم على فكرة الطائفية تفتقر للخطة وحشد المؤيدين لها بالبرامج، ولكنها تقوم على الولاء الأعمى والدوائر المغلقة وهذا الأمر لا يوجد في أي حزب في الدنيا، مضيفاً: سلوكيات الأحزاب لدينا شاذة إذا أخطأت أو أصابت فهي في عرف قواعدها أصابت، والأدهى من ذلك أن كثيراً من القواعد تسعى إلى تبرير تلك الأخطاء بقولهم إننا لم نفهم موقفهم هذا الآن ولكن سوف يأتي الوقت الذي نفهمهم فيه. ويعضد ما ذهب إليه “الدومة” المحلل السياسي وأستاذ العلوم السياسية بجامعة بحري د.”عمر عبد العزيز” الذي يقول، إن نظرية الإدارة الحالية بعد التجارب العلمية في الشرق والغرب، تقول إن أي إنسان يترأس مؤسسة لمدة تزيد عن ثماني أو 10 سنوات سوف يقل إبداعه ويصيبه الوهن والإجهاد، ولعل هذا الأمر أيضاً يعتمد على بداية الإنسان في عمله، فالشخص الذي يبدأ باكراً في عمر (25) مثلاً تكون لديه قدرات أدائية أطول، أما من يبدأ متأخراً مثل (80) عاماً فإن أداءه يكون أقل بالطبع وسوف تكون سنواته أقل. وأضاف: أي إنسان يتقدم في العمر فإن قدرته على العطاء والإبداع سوف يصيبها الضعف، لافتاً إلى أن ما تعانيه الأحزاب السودانية حالياً هو أنها تتعامل بفقه (إلا أن يدركه الموت) لرئيس الحزب. وأضاف منذ أن وعينا على الدنيا وجدنا د. “الترابي” قائداً للحركة الإسلامية و”الميرغني” للاتحاديين و”الصادق المهدي” لحزب الأمة و”نقد” للشيوعيين. ونصح د.”عمر” رؤساء الأحزاب بالتقاعد الآن حتى يتيحوا الفرصة لآخرين لديهم القدرة على العطاء والتجديد والابتكار.
ما الحل؟
يعتقد د.”عمر عبد العزيز” أن الحل يكمن في إعمال المؤسسية القادرة على تحويل الأحزاب إلى مؤسسات سياسية حقيقية. وأضاف كلما تطاول “عمر” القائد يكون هذا الأمر خصماً على المؤسسة بينما كلما كانت فترة قيادته أقل كلما كان ذلك الأمر أفضل كثيراً، مدللاً على ذلك بأن كثيراً من الدول من حولنا لم يشكل موت الرئيس أزمة فيها مثلما حدث في إثيوبيا التي وصفها بأنها من أكثر البلدان الأفريقية تطوراً في هذا الجانب، فلم يقف رحيل “ملس زناوي” حجر عثرة في الانتقال السلس للسلطة فيها، مبيناً أن واحدة من أزماتنا هو أن أي رئيس حزب لا يريد الحديث عن خلافته ويتناسى أن الموت قد يأتي في أي لحظة، وإن كان د.”عبد العزيز” قد طرح بديلاً في داخل تلك الأحزاب للوصول إلى المؤسسية، إلا أن د.”الدومة” كان رأيه أكثر حدة في مواجهة تشبث تلك القيادات، بأن اقترح بإعمال النظرية الصينية في إنشاء الجيش الرابع عندما رأت أن لا فائدة من إصلاح الجيش الأساسي وأوضح: علينا أن نترك تلك الأحزاب كما هي وتنشأ أحزاب جديدة وتبنى الأحزاب الجديدة على المنهجية التي بدأت عليها الأحزاب في الدول الأخرى، لافتاً إلى أنه حتى الأحزاب الحديثة مثل الشيوعي وأحزاب الحركات الإسلامية لم يترك لها حرية السير بصورتها الطبيعية. ورغم أنها مارست الديمقراطية قبل نحو (70) عاماً إلا أنها لم تمارس الديمقراطية بداخلها، إلا خلال (12) عاماً فقط بحجة الانقلابات السياسية، وربما يكون هذا الأمر قد أضر كثيراً بالديمقراطية داخل تلك الأحزاب.
من يخلف “الميرغني”؟
يبدو السؤال الآن أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى، وساعة الحقيقة دقت أو في طريقها إلى أن تدق داخل حزب الحركة الوطنية، فقد أتت نصيحة الأطباء في وقت يشهد فيه صراعاً عنيفاً حول المشاركة في مؤتمر الحوار الوطني وفي مؤسسات الدولة حالياً، وربما كانت ثمة مؤشرات سابقة بأن تم تصعيد نجل “الميرغني” “محمد الحسن” لخلافة والده، ورغم أنه كان يحظى بقبول عدد كبير من قيادات الصف الأول مثلما أبلغنا القيادي بالحزب “علي نايل”، إلا أنه فقد كثيراً من تلك الأراضي بعد قيادته الحزب للمشاركة مع الحكومة. وبجانب آخر فهناك (تكنوقراط) الحزب أمثال “علي محمود حسنين” و”طه علي البشير” و”إبراهيم الميرغني” و”علي السيد”، بالإضافة إلى “حاتم السر” الذين قد يمثلون قوى موازية يمكن أن تكون لديها القدرة على قيادة الحزب في الأيام المقبلة، ولكن تبقى مشاركة الحزب في الحكومة وصراع التيارين الآن حول تلك المشاركة مفصلاً مهماً في حشد كل طرف لناحيته، وهي بالتأكيد سوف توضح بشكل كبير قوة أي فصيل، وبالتالي قدرته على إحداث التأثر المطلوب والفاعل في قيادة أحد أهم الأحزاب السودانية.