"سيسيليا".. من موظفة بنك مرموقة إلى صانعة طعام (حريفة)
رغم سحنتها الهجين (half cast) بين الفرنسية والمصرية، إلاّ أن السيدة “سيسيليا” تتحدث العربية بطلاقة لا تشوبها أية (لكنة أو لثغة)، حيثُ تستقيم في مخارج حروفها فتفصح عن لسان مبين، ولا غرو في ذلك فقد ولدت ونشأت في السودان وطافت كل ولاياته. وما عزز من سودانيتها الموغلة في تفاصيل كثيرة، تخليها عن المسيحية واسلامها احتذاءً بزوجها السوداني.
(المجهر) زارت السيدة “سيسيليا بوريس” في دارها بضاحية الصحافة جنوبي الخرطوم، وجلست إليها في دردشة بمذاق طعم الوجبات السودانية والفرنسية والعربية التي تجيد طهيها منذ نعومة أظفارها.
“سيسيليا” التي تنحدر من أب مصري وأم فرنسية، تعود جذورها من جهة الأب إلى صعيد مصر، لا يعتبر هذا (التصاهر) أمراً غريباً على أُسرتها التي اعتادت ودرجت عليه، فهم خليط من الفرنسيين والألمان والإغريق، والمسلمين والأقباط يعيشون تحت سقف واحد.
تعايش رغم اختلاف الأديان
ولدت “سيسيليا” في مدينة بورتسودان بحكم عمل والدها الذي كان يتقلد منصب مدير عام البنك الأهلي المصري بمصر وجاء إلى السودان مديراً لفرع البنك في بورتسودان، وعاصر في تلك الفترة كل من “مأمون بحيري” الذي كان محافظاً لبنك السودان ثم السيد “إبراهيم نمر” من بعده، بحسب ما ذكرت، وأضافت قائلة: إن والدها شغل منصب مدير عام البنك ما أتاح له التنقل عبر ولايات السودان المختلفة حتى وفاته، وأنها تلقت تعليمها في (سستر اسكول) قبل أن تلتحق بالمعهد الفني الذي ما أن تخرجت فيه حتى عملت بالبنك التجاري السوداني، وهناك التقت بزوجها السوداني “عثمان إبراهيم” وهو من أبناء مدينة أم درمان حي (ود أرو) وأنعقد قرانهما في 12/11/1972م.
قصة حب طويلة
وعن زواجها من سوداني قالت “سيسيليا” إنها تزوجته بعد قصة حب طويلة، وتمت مراسم الزواج بطقوس سودانية خالصة، وأحضروا المأذون رغم أنها كانت مسيحية وقتذاك. ثم توجها إلى “اسمرا” لقضاء شهر العسل، وعقب عودتهما استمرت الأفراح بحفلات متفرقة، ومضت “سيسيليا” قائلة: رغم الفارق الديني ظللنا (متعايشين) بسلام وأمان وانصهرت أسرتي مع أسرته وتبادلوا الزيارات والمجاملات، وساد بينهم الاحترام ما دفعني إلى اعتناق الاسلام بعد سنتين من زواجنا.
أصنع كل شئ إلاّ (الكِسرة)
انخرطت “سيسيليا” في العادات والثقافات السودانية ومارست كل تفاصيلها الدقيقة، سيما الطهي وصناعة الوجبات السودانية بما فيها العصيدة، وعن ذلك قالت: كنت أجلس مع حماتي لأتعلم منها فنون الطهي السوداني حتى تشربته وأجدته اللهم إلاّ (القراصة والكسرة)، والأخيرة رغم حبها لها لكنها لم تحسن صنعها، بيد أنها برعت في العصيدة والطبخ خاصة (المفروكة). وفي رمضان تعمد “سيسيليا” إلى تجهيز كل مستلزماته من (شرموط وبهارات ودقيق ذرة وويكة) إلى جانب الأكلات الفرنسية من لحوم وفطائر مالحة ومحلاة، فتأخذ (صينيتها) طابعاً سودانياً خالصاً، ولا تخلو مما يهدى إليها من (حلو مر).
من موظفة بنك مرموقة إلى طباخة محترفة
ظلت “سيسيليا” تمارس الطبخ كهواية فقط، ولم يدر بخلدها أنها ستحترفها وتتخذها مصدر عيش يوماً ما، وعن ذلك تقول: منذ نعومة أظفاري وبإيعاز من (ماما) التي كانت تدفعني وتشجعني استطعت أن أصنع وجبات متعددة محلية وعالمية، وأضافت: صقلت موهبتي تلك بالدراسة من خلال كورسات في الوجبات المصرية والعربية، ولاحقاً شجعنني زميلاتي في العمل عندما كنت أهديهم بعض صنيعي من الوجبات الجاهزة، فصرت أجلبها لهم كطلبات، وعندما تقاعدت عن العمل بعد تحويل البنك لـ(مصرف المزارع) وجدت نفسي مضطرة لامتهان إعداد الوجبات، فطورت عملي إلى أن افتتحت محلاً لبيع اللحوم الجاهزة بحي الأزهري بالخرطوم، ووضعت على لافتته اسمي “سيسيليا”، وهو الآن من أشهر المحلات في هذا المجال.
تستمع للكابلي وتنتمي إلى الختمية
شأنها شأن اللحوم المصنعة كانت “سيسيليا” تعدها وتغلفها بمواد محلية في منزلها، فهي تعد السجوك بعد نظافة (المصارين) جيداً، ومن ثم فرم لحمة صافية وتتبيلها ببهارات (تطحنها) بيدها، هذا إلى جانب إعدادها لبعض الوجبات السريعة مثل الـ(كومبيه بالبرغل) وهي وجبة سورية جميلة، أو (كفتة الدجاج، وكفتة أصابع، أرقاص البطاطس بالشطة) وهذه فرنسية، وهنالك والفلافل الـ(كفتة) المصرية، والسجوك السوري، إلى جانب كل أنواع الفطائر الأخرى.
(سيسيليا) أبهرتني بلهجتها السودانية (القحة) رغم ملامحها الأجنبية، وبحسبها فإن والدها أيضاً كان ينحاز إلى العربية، وكان يتفاعل مع الأحداث التي تدور في الساحة السياسية والاقتصادية والاجتماعية السودانية، ليس ذلك فحسب فإنها وأبناءها ينتمون إلى طائفة الختمية، حد أنها عقدت قران وحيدتها “هالة” على أثيوبي في جامع السيد “علي الميرغني”، وختمت قائلة أحب أغنيات الكابلي ووردي وسيد خليفة رحمهم الله جميعاً.