أخبار

خربشات الجمعة

(1)
في عام 1998م انعقدت جولة مفاوضات في العاصمة الكينية “نيروبي” بين وفد الحكومة والحركة الشعبية.. وكان وفد الحكومة يقوده “د. علي الحاج” ويضم “د. مطرف صديق” و”د. رياك مشار” و”د. رياك قاي” واللواء “السون مناني مقايا”، وتم تمثيل المناطق الثلاث: النيل الأزرق وأبيي وجبال النوبة، بوفد شعبي في ظاهره وحكومي في باطنه، حيث يتم اختيار أغلب المعارضين على (خفيف).. وأذكر في تلك المفاوضات، التي جرت في مركز لتدريب الصيارفة غرب “نيروبي”، أن الوفد الشعبي للنيل الأزرق ضم “السماني عقار” الذي يمت بصلات القربى بالمتمرد “مالك عقار”.. و”كمندان جودة” والمك “يوسف عدلان”، بينما الوفد الشعبي لجبال النوبة ضم الراحل العميد “(م) حمد عبد الكريم السيد” والراحل “مكي علي بلايل” و”عمر سليمان آدم” والراحل الأمير “أحمد موسى حارن”.. وحدثت واقعة تكشف عن سوء تدبير الموظفين، الذين يشرفون على سفر الوفود، وقد ارتكب هؤلاء الموظفون خطأً جسيماً، كاد أن يؤدي لتمرد بعض أعضاء الوفد وانضمامهم للتمرد، لولا فطنة “د. مطرف صديق النميري”.. حيث تم الحجز للوفد الحكومي في فندق خمسة نجوم، تحيط به الأنوار و(البهرجة).. ولكن الوفد الشعبي للنيل الأزرق، تمت استضافته في استراحة تابعة لشركة الخطوط الجوية السودانية، لا تزال الحكومة تدفع إيجارها في ذلك الوقت، بعد أن أغلقت (سودانير) مكتبها في “نيروبي” لنقص الطائرات وفشلها في منافسة الخطوط الكينية والأثيوبية، إضافة إلى الضغوط التي تعرضت لها (سودانير) في “كينيا”.. تدابير موظفي الحكومة لقصر نظرهم وحبهم لشهوات المال والاستفادة من بضع دولارات، جعلتهم يختارون الاستراحة البائسة لوفد “النيل الأزرق” وفندق أكثر بؤساً وبمبالغ زهيدة لوفد “جنوب كردفان”.. وحينما هبطنا مطار نيروبي (كيناتا)، تبدى مظهر” السماني عقار” مريباً، فهو الوحيد الذي يرتدي جلابية بيضاء وعمامة كبيرة وفى يده مسبحة، وكان يمقت التمرد جداً ويعتبره سبباً في تعطيل مشروعات تنمية “النيل الأزرق”.. المناخ في “نيروبي” بارد جداً.. ونثريات أعضاء الوفد لا تمكنهم من الذهاب للمطاعم الجيدة، والسفير حينذاك “السر أبو أحمد” يقدم يومياً وجبة إفطار لأعضاء الوفد، كأنه يضع نفسه في مقام السفير “عثمان السيد” الذي يعتبر طبعة خاصة من السفراء نفدت الآن من أسواق الدبلوماسية،  بكرمهم وحسن معشره واحتفائه بالسودانيين في “أديس أبابا”.. في هجعة الليل زار “مالك عقار” وفد “النيل الأزرق”، والذي كالعادة يتم اختياره لأداء مهمة تقريب وجهات النظر بين الحكومة والمتمردين، بحسابات أن هؤلاء أبناء المنطقة وتجمعهم روابط وعلاقات أسرية وأواصر دم وقربى.. عندما زار “مالك عقار” وفد “النيل الأزرق” وجده يسكن في منزل متواضع جداً في “نيروبي”، بينما الوفد الحكومي المركزي ينعم بالرفاهية في فندق خمسة نجوم.. حرضهم على (الجلابة)، رغم أن غالبية الوفد المركزي من الجنوبيين و”د. علي الحاج” و”محمد يوسف عبد الله”، ولا وجود (للجلابة) كما يزعم “مالك عقار”، الذي حمل الوفد بسيارته للسوق، وأنعم عليهم ببدل زرقاء أنيقة وملابس صوفية ونثر عليهم قليلاً من الدولارات.. ولكنه قال إن التهميش لـ”النيل الأزرق” امتد حتى لوفد التفاوض.. في صباح اليوم التالي تبدلت لهجة الوفد وتغيرت حتى ملامحهم.  جاءوا لمقر التفاوض يرتدون ملابس أنيقة و(كسكتة) مثل التي يرتديها “أشرف الكاردينال”، الذي تأثر بأصدقائه وأحبابه في الحركة الشعبية وحكومة الجنوب وأخذ (يقلدهم).. المهم اكتشف العميد حينذاك “علي حامد” والي البحر الأحمر الحالي، أن هناك شيئاً ما حدث.. لم يقف طويلاً وقرر في الحال نقل الوفد الذي يمثل “النيل الأزرق” للفندق خمسة نجوم إرضاء لهم.. في تلك المفاوضات التي فشلت ووصلت لطريق مسدود، قدم لنا المرحوم “يوسف كوه مكي”، الدعوة لتناول وجبة الغداء بمنزله وأعدت زوجته “فاطمة” الكسرة بملاح البامية وشية الضأن.. أمضينا ساعات طويلة في منزله لم يعكر صفو الجلسة سوى المشكلة، التي أثارها معي “وليد حامد” وكان بمثابة الرقيب على “يوسف كوه”، يتدخل في تفاصيل لا تعنيه في شيء، ويتحدث مع وفد المنطقة بعدوانية وروح شريرة.. تلك أيام وقد طواها النسيان.. رحل من رحل.. وغاب عن المشهد السياسي والاجتماعي من غاب،  وبقيت الذكريات نجترها فقط للعبر والدروس.
(2)
يختار “إلياس فتح الرحمن”، صاحب (دار مدارك للكتاب) عناوين منتقاة.. ولا يعرض بالمكتبة ؤرالصغيرة الواقعة بالعمارات أي كتاب.. ويقال إن هذه المكتبة شراكة بين “إلياس فتح الرحمن” الشاعر والتقدمي الاشتراكي مع شاعر تقدمي اشتراكي آخر، مثله، ويمضي القيل والقال إلى حد الادعاء، أحياناً، بأنها نافذة للحزب الشيوعي.. كل ذلك لا يعنيني في شيء، سواء أكانت للحزب الشيوعي أو للحزب الاتحادي الديمقراطي.. لكن ما يعنيني هو إدراك صاحب (دار مدارك) أن الكتاب النادر سلعة غالية.. ويلتزم “إلياس فتح الرحمن” بأخلاقيات مهنة (الوراقين) الحقيقيين، لا يبيع ويشتري في الكتب (المضروبة) و(المسروقة) و(المغشوشة)، والكتاب سلعة فيها المضروب والمغشوش والمهرب.. لكن البضاعة الأصلية لها ثمن.. وآخر ما صدر من (مدارك)  وحصلت عليه (وساهر بي) حتى الساعات الأولى من الصباح، كما يقول “أحمد البلال”، كتاب السفير “د. نور الدين ساتي” تحت عنوان (عائد من مملكة السرطان). وفي الإرث الأدبي يقول “الحاردلو” في الشهر حتى منتصف الليل،  أبيات تغنى بها “عبد الكريم الكابلي”:
البارح أنا وقصبة مدالق السيل
في ونسه وبسط لامِن قسمنا الليل
وكتين النعام اشقلبنو الخيل
لا جادت ولا بخلت علي بلحيل
وقد فرض “نور الدين ساتي” عليَّ السهر وأنا في أحضان كتاب لرجل أصابه مرض السرطان القاتل.. ولكنه شفي بفضل الله وعون الأطباء. لأن الروح ليها يوم ولكل أجل كتاب. وقديماً قال “طه الضرير” في الشفاء والمرض والأقدار أبياتاً أخرى أكثر عمقاً وبلاغة:
قليعات الرزق أمست تعولن ماطرة
ومحرييني طلق نفس الغرير والباترة
كان درتهن فوق أم محاجماً قاطرة
تلقى العافية من غير بنسلين ودكاترة
وقد شفا “د. نور الدين ساتي” من مرض السرطان (بالبنسلين) مجازاً وبالدكاترة من خلال العلاج الكيماوي.. ووثق لتجربته في كتاب من 183 صفحة فيها الكثير من العبر والدروس النافعة والمواقف الإنسانية التي تكشف عن إيمان عميق للسفير “ساتي” بالحياة وصوفية توطنت في قلب رجل واجه الموت بشجاعة، ولكن كتب له الله الحياة.. وما كان “نور الدين ساتي” بخيلاً لاثنين من مرضى السرطان كتب الله لهما الشفاء هما “نجيب خليفة محجوب” والدكتور “عبد الغني محجوب”، ولكن القاسم المشترك للمرضى الثلاثة الذين شفاهم الله بفضله من مرض السرطان، أنهم من الذين أفاض عليهم برزقه مالاً جعلهم يتنقلون بين قارات الدنيا بحثاً عن العلاج ما بين “جدة” و”ألمانيا” و”واشنطن” و”لندن”.. وفي شفاء “ساتي” من السرطان عبرة ودروس.. وقد أودى هذا المرض بحياة الآلاف من البشر في الكرة الأرضية، ولم يبك جمهور فريق برشلونة مثلما بكى قبل سنوات لرحيل المدرب الشاب “فالنوفا” الذي مات بسبب سرطان في الأمعاء.. وكتب الله الشفاء للاعب الفرنسي الشهير “ابيدال”.. إنها قدرة الله الذي يشفي ويمرض، ولكن “نور الدين ساتي” يقدم تجربة تستحق أن يطلع عليها الناس في هذا الزمان.. ما أكثر العبر وما أقل الاعتبار.
(3)
في زمان الوسائط المتعددة وثورة التكنولوجيا اندثرت قيم وتبددت أخلاق.. وظهرت في السطح ممارسات لا أخلاقية من بعض الذين لا خلق لهم ولا قيم ولا دين.. فئات اجتماعية تدوس على كل المواريث بأحذيتها بتسجيل المكالمات وبثها في (الواتساب).. تلتقط الصور الخصوصية وتستغلها في الفتن والابتزاز.. تستخدم تقنيات (الفوتشوب) لتدمير حياة الأسر.. وبث الكراهية والشكوك.. إننا في عصر انتهاك الخصوصية إذا تحدث معك أحدهم وشعرت بصدى في الصوت، فإن الطرف الآخر بدأ يسجل ما تقول، أحذروا (الواتساب) والأجهزة المتطورة جداً ذات الثقافة الحديثة.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية