تقارير

مشاهد ووقائع من دفتر نظارتين

غاب “الغالي” و”السماني” وجاء (يوسفان) لنظارتي “الفلاتة” و”الهبانية”
يوسف عبد المنان
غيّب الموت قبل أقل من (60) يوماً الناظر اللواء “صلاح علي الغالي تاج الدين” ناظر عموم الهبانية.. وسراعاً لحق به صديقه ورفيقه وخليله وشبيهه مظهراً ومخبراً الناظر “أحمد السماني أبشر”.. خيوط عديدة تربط بين الناظرين الراحلين، تشابهاً في المواقف حد التطابق.. كلاهما يرفض الحرب وخوضها على أساس القبيلة حينما هاجمت قوات “مني أركو مناوي” مدينة برام حاضرة الهبانية جرح قلب الناظر “صلاح الغالي” كجنرال في القوات المسلحة خلع رداء العسكرية من أجل قبيلته وعشيرته بعد رحيل والده الناظر “علي الغالي تاج الدين” في النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي.. وقتلا التمرد اثنين من أشقاء الناظر “صلاح” منهما وكيل النظارة الشهيد “عمر الغالي تاج الدين”.. ومشى “صلاح” على حد السكين وجرح الهبانية ينزف، ورفض كل محاولات تجييش قبيلته لأخذ ثأرها ممن ظلمها واعتدى عليها، وحينها كان “صلاح الغالي” يجسد ما ورد في القرآن الكريم (الكاظمين الغيظ) و(العافين عن الناس).. جمع “صلاح الغالي” بين كظم الغيظ والعفو عند المقدرة، لأن الزعيم الذي لا تفارق ابتسامته الوجه الوضيء كان عابداً ذاكراً قائماً في هجعة الليل.. حينما غيب الموت “صلاح الغالي” كان جاره وصديق عمره وشبيه مظهره ومطابق معدنه الناظر “أحمد السماني أبشر” قد وهن عظمه، وانتاشته سهام المرض، وأقعدته عن العطاء الذي ميزه عن أقرانه.. و”أحمد السماني أبشر” من رجالات الإدارة الأهلية القلائل الذين رفضوا الزج بقبائلهم في أتون الحرب وفتنة دارفور رغم شراسة شباب القبيلتين ودورهما في معركتي “النخارة” و”قوز دنقو”، وتصديهما لمحاولات التمرد المتعددة للنيل من “تلس” و”برام” بعد الاختراق الوحيد والأخير الذي قامت به قوات التمرد.
{ (اليوسفان).. ذات الملامح والشبه
إذا كان “يوسف علي الغالي تاج الدين” قد انتخبه (36) من عمد الهبانية وأكثر من (700) شيخ، ولم يبد اعتراضاً على الترشيح إلا عمدة واحد بإيعاز من بعض السياسيين الذين يصطادون في كل المياه.. وهذا العمدة الوحيد، سارع بعد ذلك لتهنئة “يوسف الغالي” والاعتذار عن موقفه المتسرع، لتكتب قبيلة الهبانية وصيتها للسلطة السياسية والتنفيذية ممثلة في الوالي “آدم الفكي محمد الطيب” لإصدار قرار بتعيين الناظر “يوسف” البالغ من العمر حوالي (50) سنة ويعمل بالتجارة في مدينة نيالا كناظر لعموم الهبانية في السودان، فإن ناظر عموم الفلاتة “يوسف السماني أبشر” (65) عاماً الذي يعمل معلماً بمرحلة الأساس قد نال إجماعاً من أهله وعشيرته.. وكلتا النظارتين متجاورتين متعايشتين في تواد وتراحم، بل هناك الكثير من الزيجات المشتركة مع بعض الفوارق.. وإذا كانت تمتد قطرياً من “برام” إلى كردفان في “شركيلا”.. وفي سنار والخرطوم حيث للهبانية ناظر بالخرطوم “التجاني”، وعضو بالمجلس التشريعي في ولاية الخرطوم، فإن نظارة الفلاتة تعدّ (أممية). وقد ذكر “عبد الرحمن مرجي داوود” في يوم وداع الفلاتة للناظر “أحمد السماني” من خلال التأبين الذي أقيم بـ”تلس” إن خيام تلقي العزاء في روح “أحمد السماني” تنصب في ذات الوقت بمدينة “تمبكتو”.. وفي “بوركينا فاسو” بأقصى غرب أفريقيا، وكذلك في نيجيريتا وتشاد، فالفلاتة يشكلون كثافة سكانية تجعل منهم واحدة من أكبر أربع قبائل في القارة الأفريقية مثل “الأشانتي” في غانا و”الدينكا” في جنوب السودان و”الماساي” في كينيا.. وقد تواترت على “تلس” مئات الوفود من شمال دارفور وغربها.. مثلما كانت “برام” قبل أيام قبلة لكل أهل السودان.
والناظر “يوسف السماني أبشر” هو الناظر الثاني عشر لهذه القبيلة طبقاً لما يقوله كبار الفلاتة ورموزها في “تلس” وهم يتحدثون عن تاريخ القبيلة، التي كانت في القرن الحادي عشر عبارة عن بطن من سلطنة “الداجو”، لكنها تحتفظ بخصائصها وثقافاتها وتقاليدها.. وقد منحهم سلطان “الداجو” الأرض التي يقيمون عليها الآن وجعلوا من “أم سعدون” عاصمة للفلاتة وليس مدينة “تلس”.. وفي عام 1445 أصبح الفلاتة نظارة تحت إمارة “إسحق أبو بلبل” في عهد السلطان “عبد الرحمن الرشيد”، ثم جاء من بعده “محمد إبراهيم أبو رقة” في عهد السلطان “محمد الفضل”، وجاء من بعد “إدريس الشنة محمد عيسى” كثالث قيادة للفلاتة في عهد سلطنة الفور، والسلطان “محمد الفضل”.. والقيادة الرابعة للفلاتة جاءت في عهد السلطان “حسين” بقيادة “جار النبي محمد”، لتأتي حقبة المهدية التي ساند فيها الفلاتة المهدي وخليفته “عبد الله التعايشي” فأصبح “بشارة سيد الدور” عام 1888 أميراً للفلاتة في تلك المنطقة، وجاء من بعده “همة آدم الدركة” في عهد السلطان “علي دينار” سلطان الفور، وفي عام 1913 وحتى 1931 أصبح “حامد أحمد إسحق أبو حميرة” ناظراً للفلاتة، ليخلفه في المقعد “السماني أبشر” من 1932-1946، ومن ثم جاء الناظر “عيسى السماني أبشر” من 1947 وحتى 1969 تاريخ حل النظام المايوي للإدارة الأهلية بادعاء أنها تمثل الرجعية والطائفية.. وفي عام 1984 تم اختيار الناظر “أحمد السماني أبشر” حتى رحيله في القاهرة الأسبوع الماضي، لتنعقد الإمارة للأستاذ “يوسف السماني أبشر” باعتباره الناظر الثاني عشر في تاريخ القبيلة ورمزها وقائدها الجديد، وقد أجمع عليه (26) عمدة للفلاتة و(400) شيخ دون تصويت، ولم تنشب أي خلافات بين بطون الفلاتة في إجماع عدّه الوالي “آدم الفكي” مظهراً حضارياً لقبيلة تمثل ركيزة مهمة لهذا السودان.. والناظر “يوسف السماني”، نحيل الجسد، صارم القسمات، متواضع بلا ضعف وقوي بلا غرور، يمثل أقرب أبناء القبيلة للراحل الناظر “أحمد السماني” الذي لا يخشى الحكام ولا يداهن في مواقفه، وحينما نشب خلاف بينه ووالي جنوب دارفور الأسبق الأستاذ “علي محمود حسب الرسول” رفض التنازل والخضوع لمبادرات رأب الصدع لتمسكه بالحق حتى ذهب الوالي “علي محمود” عن نيالا، وهو الشقيق الأكبر للدكتور “عيسى آدم أبكر” والي جنوب كردفان الحالي.
{ الطريق إلى تلس
النجاحات التي حققها الدكتور “حسبو محمد عبد الرحمن” في منصب نائب الرئيس وحركته الدؤوبة ونشاطه الجم، يقف وراء هذه النجاحات مكتب فاعل يقوده الدكتور “الفاتح الحسن المهدي” وزير الدولة وأحد الشباب الذين جاء بهم المؤتمر الوطني من القطاعات الطلابية إلى المهام التنفيذية، وتتجسد نجاحات مكتب نائب الرئيس في حسن الاختيار لمرافقي الدكتور “حسبو” من القيادات التنفيذية والسياسية في رحلاته الداخلية والخارجية، وحينما أقبل لأداء واجب العزاء للهبانية في رحيل الناظر “صلاح الغالي” اختار لرفقته تلك ولاة جنوب دارفور السابقين الفريق “آدم حامد موسى” والأستاذ “حماد إسماعيل” والجنرال “آدم جار النبي”، وغاب “الحاج آدم يوسف” فقط.. وضم وفد التعزية د. “عمر آدم رحمة” والوزير السابق “عبد الله علي صافي النور” والمهندس “عبد الله علي مسار” القيادي في حزب الأمة الوطني.. بينما تشكل وفد تلس من الوزير الشاب “ياسر يوسف”، د. “عمر آدم رحمة”، “الصادق الرزيقي” نقيب الصحافيين، رجل الأعمال “موسى محمد”، “عبد الله علي مسار”، د. “حبيب أحمد مختوم” وانضم للوفد في نيالا المهندس “آدم الفكي محمد الطيب”، بينما غاب عن رفقة نائب الرئيس “حاج ماجد سوار” الذي انتظره الوفد بمطار الخرطوم لنصف ساعة لكنه لم يحضر، الشيء الذي جعل الكثيرين يتساءلون عما حدث.
{ تلس دموع على الرمل
بدت مدينة تلس حزينة كئيبة وهي تودع الناظر “أحمد السماني أبشر”.. وحزن المدينة تجسده أبواب المتاجر المغلقة وسرادق العزاء الذي تمدد لمسافة تزيد عن الـ(500) متر.. وفود تأتي، وتغدو، وقد هبطت الطائرة المروحية في تمام الساعة العاشرة والنصف، وكان الاستقبال ممزوجاً بالثناء على الوصول ومشاركة الفلاتة أحزانهم.. وبين الحزن المقيم لرحيل حكيم دارفور وسيفها الذي تقاتل به حين تتمايز الصفوف، تحدث المهندس “عبد الله علي مسار” في التأبين حديث السياسي المعتق، وروى قصة علاقته بالراحل “أحمد السماني” منذ ثمانينيات القرن الماضي، وكلاهما ينشط في الاتحاد الاشتراكي حينذاك بإقليم دارفور.. وقال “الصادق الرزيقي” إن قبيلة مثل الفلاتة بمثقفيها ورموزها وقادتها هي قبيلة جديرة بأن يقودها رجل حكيم مثل الراحل “أحمد السماني”.. لكن النائب “حسبو محمد عبد الرحمن” تجاوز بالجماهير التي كانت صامتة ما بين الحزن والترقب تلك الحالة ليتحدث بصراحة شديدة عن الأوضاع في الإقليم ومآلاته.. ووجه “حسبو” نقداً علنياً وجهيراً إلى سلوكيات بعض المحسوبين على الفلاتة في الفترة الأخيرة.. و”حسبو” يملك الشجاعة التي تجعله ينتقدهم علناً، وهم يتقبلون نصيحته.. حينما يتحدث لـ”الرزيقات” تجده يعدد أخطاء القبيلة وتجاوزاتها بصراحة شديدة، وهو ذات المنهج الذي يتحدث به مع “الهبانية” و”الفلاتة” و”الفور”.. طالب الفلاتة بنبذ كل من يقطع طريقاً أو ينهب مال غيره، وأن تمضي المصالحات القبلية حتى تصبح المنطقة للسلام والتنمية، وتعهد في الحال بدفع أي مبلغ يجمعه أهالي تلس من أجل تنميتها، لينهض في الحال رجل الأعمال الشهير “الشيخ إدريس” ويتبرع بمبلغ (50) مليون جنيه كأساس لهيئة تنمية تلس وهو كيل ناظر الفلاتة في الخرطوم وشقيق الراحل “ابن عمر إدريس”.. وقد أعادت تلس برجالها وحماسها الوزير الشاب “ياسر يوسف” أمين الإعلام بالمؤتمر الوطني لسنوات الصبا وأيام جامعة الخرطوم، فخلع عباءة الوزير وتحدث بلغة المجاهد المقاتل.. خطاب ثوري يفيض حماساً جعل بيت (البكاء) شيئاً آخر، والهتاف يشق عنان السماء و”ياسر يوسف” يقول إن شباب الفلاتة هم من يذودون عن الدين والوطن بالمهج والأرواح، مثلما دحروا حركة العدل والمساواة في معركة “النخارة” هم على استعداد للجهاد والذود عن الإنقاذ في أي زمان ومكان.
{ تلس تشكو التهميش
تجمع في مسجد تلس العتيق الآلاف من المصلين للإصغاء للنائب “حسبو محمد عبد الرحمن” وهو يتحدث عن الحوار الوطني، لكن شباب مدينة تلس “موسى دانفوديو” وهو من قيادات المؤتمر الشعبي و”عبد السلام محمد صالح” من القيادات الشبابية في المؤتمر الوطني تحدثا لـ(لمجهر( بأسى وحزن عميق للتهميش الذي تعاني منه محلية تلس التي يصل عدد سكانها إلى (700) ألف نسمة وليس بها طبيب واحد دعك عن اختصاصي.. ومستشفى تلس يديره مساعد طبي.. ولا أثر لاختصاصي نساء وتوليد ولا اختصاصي باطنية.. والمدارس الثانوية بلا إجلاس، طالبات في سن الـ(17) والـ(19) سنة اللائي تغنى لهن “محمد وردي”، يجلسن على الأرض أو على جذوع لأشجار جافة.. وفي القرى لا أثر للتعليم، والفاقد التربوي تتضاعف نسبته، وتبرعات المسؤولين من ولاة جنوب دارفور منذ عهد الفريق “آدم حامد” و”الحاج عطا المنان” لم تف بها الحكومة.. أما مشروعات السلطة الإقليمية لدارفور فقد ذهبت لمحليات أخرى، وحتى تبرعات د. “التيجاني سيسي” كانت وعوداً بلا تنفيذ.. ويمضي شباب محلية تلس ويقولون إنهم من قاتلوا التمرد في “النخارة”، وهزموا حركة العدل والمساواة، وإن طريق (تلس- نيالا) سيظل حلماً يراودهم لسنوات طويلة.. هذا وغيره من قصص وحكايات مدينة تلس، لكن الساعات القليلة التي أمضيناها فيها تجعل القصة قصيرة جداً.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية