المفاوضات بين دولتي الشمال والجنوب : سيف الوقت.. يهدّد الملفات المؤجلة
بغرض إجراء مشاورات سياسية، وصفتها بـ(العميقة) مع القيادة العليا في كلتا الدولتين، انفضت جولة التفاوض، ورفعت الوساطة الأفريقية رفيعة المستوى جولة المفاوضات، التي استمرت نحو ثمانية أيام، في العاصمة الأثيوبية أديس أبابا، بعد أن امتدحت الروح الإيجابية التي تحلى بها وفدا السودان وجنوب السودان المشاركين في اجتماعات اللجنة السياسية الأمنية العليا، وبدا لافتاً أن مخرجات الجولة السابقة من التفاوض ضُرب حولها سياج من السرية، ما يشي بأن هناك نقاطاً مفصلية طرحتها الوساطة فيما يلي ملف الحدود والملف الأمني، بحيث لا يتسنى لممثلي حكومتي البلدين في المفاوضات البتّ فيها دون الرجوع إلى القيادة العليا في الدولتين، حيث يرجح متابعون أن الوسيط الأفريقي حمّل رئيسي الوفدين مقترحات لإيصالها إلى الرئيسين في البلدين (عمر البشير) و(سلفا كير ميارديت) بعد أن رشح حديث حول عقد قمة بين الرجلين خلال أيام، علّهما يحددان موقف دولتيهما من طرح الوساطة السري ذاك، رفضاً أو قبولاً.
وتأتي تلك التحركات فيما تمضي المهلة التي منحها مجلس الأمن الدولي كقيد زمني للطرفين نحو نهاياتها، إذ شدّد مجلس الأمن في وقت سابق على (الخرطوم) و(جوبا) بضرورة أن تلتزما خلال ثلاثة أشهر من إصدار القرار الأممي (2046) بوضع حلول عملية لمجمل القضايا العالقة، وأن تتم تسوية سلمية لجميع القضايا المختلف حولها، وعلى رأسها الملف الأمني والحدود، والقضايا الاقتصادية بينهما، وإلا سيتم فرض عقوبات قاسية على البلدين قد تصل إلى استخدام الفصل السابع- التدخل العسكري- فيما عدّت الحكومة السودانية أن مسألة الوقت التي حدّدها مجلس الأمن غير حاسمة أو نهائية أو ملزمة، خاصة في حال إحراز تقدم في الملفات التفاوضية لا سيما الملف الأمني الذي يرتبط بالحدود، وهو ما لم يحدث حتى الآن، حيث ما تزال عقبة (نقطة الصفر) الحدودية تقف حجر عثرة ونقطة (عصلجة) في طريق التفاوض، وأدت إلى انهيار الجولات السابقة، وأوصلت الطرفين إلى طريق مسدود، حيث تتمسك الحكومة السودانية بخرائط كنتورية تم رسمها بواسطة بعثات الأمم المتحدة العاملة في السودان، بينما تعدّ دولة الجنوب أن تلك الخرائط تم رسمها لتتواءم مع حكومة الشمال، ما أدى إلى رفضها وضم عدد من المناطق ليست محل خلاف بين الدولتين، على رأسها منطقة الميل (14)، فضلاً عن عدم التوصل إلى حلول بشأن أبيي النفطية.
وعلى الرغم من إحراز تقدم جزئي وبطيء في الملف الأمني، وتم الاتفاق على إحياء وتنشيط لجنة التقصي والتحقق المشتركة الخاصة بالحدود خلال الأيام القليلة القادمة بما في ذلك إرسال المراقبين إلى الرئاسة المؤقتة للبعثة بمدينة أصوصة الأثيوبية، لكن عقبة مضي ونفاد الوقت بين الطرفين في الفترة الزمنية التي حدّدها مجلس الأمن، وتسليط سيف العقوبات على الدولتين، ما تزال تتطلب المزيد من الإسراع في حسم الملفات. ويرى مراقبون تحدثوا لـ(المجهر) أن اللعب على عامل الزمن هو أخطر ما يقوم به طرفا التفاوض، فالسودان وضع أولوياته التي لا تتقاطع وأولويات جنوب السودان، باعتبار أن الجنوب ينظر إلى أبيي قبل النفط أو الحدود، وبالرجوع إلى حديث كبير مفاوضي الجنوب (باقان أموم) فإن الحل الموضوع للحدود هو التحكيم، وهو ذات الموقف الذي أعلنته الحركة قبل الانفصال. وبجانب الضغط الاقتصادي، هناك احتجاجات قلّلت منها الحكومة، لكن لها تأثيرها على الطاولة. والجولة القادمة لا بد من التوصل فيها إلى تسوية رغم الهشاشة التي تسيطر عليها وفقاً للجولات السابقة.
لكن المحلل السياسي والقيادي في المؤتمر الوطني الحاكم الدكتور (ربيع عبد العاطي)، يرى أن الحكومة مطالبة بإبداء وجهة نظرها في التفاوض، وعدم التقيّد بأية وجهة نظر غير موضوعية، ويضيف: “لسنا مطالبين بالاستعجال في حسم الملفات وذلك من شأن الوساطة الأفريقية، ولا تهمنا من قريب أو بعيد قرارات مجلس الأمن، ولا أحد يمكن أن يجرّ الحكومة إلى شيء لا ترغبه”، وقال إن قرارات مجلس الأمن أمر يخص المجلس نفسه. ويرى أن العبرة في المباحثات بالنهايات وليس البدايات، وأن أسّ الخلافات بين الطرفين يتمثل في عدم تجاوز القضايا الأمنية والحدود، خاصة عقبة الميل (14)، بجانب الخلاف على منطقة أبيي وإصرار الحركة الشعبية على تولي منصب رئيس الإدارية ورئيس المجلس التشريعي، فضلاً عن الخلاف حول الحدود والخارطة الجغرافية، مشيراً إلى أنه لو تمّ حسم الخلاف على الحدود ومنطقة أبيي والمنطقة العازلة فسيكون حسم الملفات الأخرى سهلاً، ويمكن أن يمهد الطريق لطي الملفات الأخرى في أسرع وقت ممكن، وألمح إلى أن الطرفين تجاوزا الخلافات حول الحدود الأمنية بنسبة (90%) من القضايا العالقة والمختلف حولها بين الجانبين.
ويمضي بالقول، إن قضايا الحدود والترتيبات الأمنية ليس من مصلحة الطرفين التلكؤ في حسمها، وإن دولة الجنوب تعتمد في تأخيرها على تعاطف المجتمع الدولي معها، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية، للوصول إلى مرحلة التحكيم الدولي. ويشير (عبد العاطي) إلى أن الجنوب يعوّل بصورة أساسية على مسألة التحكيم، لكنه يعتقد أن التحكيم في مثل هذه القضايا سيكون قضائياً وليس سياسياً.
بينما يذهب المحلل السياسي (الحاج حمد محمد خير) في تحليله لمسألة ضيق الوقت الممنوح من قبل مجلس الأمن، إلى أن قرارات مجلس الأمن حول حلّ النزاع بين السودان وجنوب السودان مجرد تهديد فارغ، ولا يحل ولا يربط، ويرى أن دولة الجنوب وحكومتها فاشلة في التوصل إلى حلول بشأن القضايا العالقة بكل الاتجاهات، وأن الذي يحرك دولة الجنوب ويدير شأنها الداخلي هو الإدارة الأمريكية. وتوقّع (الحاج) فشل الجولة المقبلة من التفاوض، ويرى أن المخرج يتمثل في وضع سياسة وطنية (كاملة الدسم)، لكن يبقى التحدي الماثل بين دولتي السودان وجنوب السودان، في ما إذا كانت (الخرطوم) و(جوبا) قادرتين على طي الملف الأمني خلال الجولة المقبلة، على الرغم من تشاؤم العديد من المراقبين حول الخروج من سيف العقوبات المسلّط على رقبتي الدولتين.