إلى أين؟؟
الفيديو الصادم للمشاعر الإنسانية الذي بثته مواقع التواصل الاجتماعي الأسبوع الماضي، لشاب في مقتبل العمر يتعرض لتعذيب وحشي من مواطنين، بلغ انحطاطهم الأخلاقي والقيمي أن وضعوا كمية من الشطة، في مؤخرة الصبي الذي كان يصرخ بأعلى صوته ويتوسل لجلاديه بالرأفة به والعطف عليه.. وصراخ الصبي هو صراخ وطن ووجع أمة ينهش في لحمها صقور تتدثر بثياب الإنسان.. الحادثة الصادمة لمشاعر الأغلبية من الشعب السوداني وقعت في الخرطوم، وليس دارفور التي تغيب فيها سلطة الدولة، ولا في جبال النوبة التي ترزح تحت وطأة حرب لا أخلاقية.. وليست في الشرق البعيد، ولا الشمال المقهور.. وقد طارت بالحادثة الأسافير.. وتم بثها في أركان الدنيا.. واستقبلت سفارات السودان في البلدان الأوروبية مئات الرسائل التي تستفسر عن واقعة التعذيب الوحشي، وعن الإجراءات التي اتخذتها الحكومة حيال الجناة الذين مارسوا التعذيب بحق صبي يعتقد أنه دخل منزلاً لمواطن لأغراض السرقة والنهب، فيما يعرف بظاهرة (تُلب) التي تتفشى في المدن منذ عشرات السنين، ولكن لم تبلغ الوحشية بالإنسان السوداني، هذا المبلغ إلا في السنوات الأخيرة.. ومقاطع الفيديو التي بثت لا تمثل استفزازاً لمشاعر الشعب والضمير العالمي فحسب.. بل تطعن في كفاءة الأجهزة المعنية، وقدرتها على الوصول لهؤلاء وردعهم بالقانون الذي يحرم ويحظر أخذ الحقوق كفاحاً باليد، في وجود سلطة ودولة.. حرياً بها اليوم محاكمة هؤلاء الوحوش علناً. ولو كانت في بلادنا نقابة للمحامين لنهضت بمسؤولياتها في متابعة مثل هذه القضايا، ولكن اتحاد المحامين الحالي بات مؤسسة اجتماعية لتسهيل الزواج ومساعدة المرضى من عضوية النقابة وتوزيع خراف الأضاحي، ولكن لا مسؤولية نحو قضايا الحقوق العامة.. ولا انتهاكات القانون، ولو كانت في بلادنا منظمات مجتمع مدني
تعرف واجباتها لتصدت لهذه القضية، وصدرت البيانات التي تدين الحادثة ولطالبت وزارة الداخلية بالقبض على الجناة ومحاكمتهم.
ووزارة العدل التي يفترض أن تحرس القانون، وتصون حقوق الإنسان مشغولة بمعاركها الداخلية، وتنقلات المستشارين وتصفية حسابات بعضهم البعض.. وغداً تصدر الإدانات من منظمات حقوق الإنسان العالمية والإقليمية إن وجدت .. ويتعرض السودان في مجلس حقوق الإنسان لهجوم بسبب مثل هذه الممارسات، والتي هي من قصور تلك الأجهزة وتقاعسها عن أداء واجبها.. ولكن نحن قادرون فقط على ترديد الذرائع والإدعاء بأن بلادنا مستهدفة ومتربص بها من قبل المنظمات الصهيونية والإمبريالية المعادية.. ولكن هل المنظمات المعادية هي التي بثت فظائع واقع تعذيب مواطنين لمواطن مثلهم؟ ومن المتربص بالسودان هؤلاء الوحوش غير الإنسانيين، أم المنظمات الدولية التي تثير حفيظتها مثل هذه السلوكيات.
التوظيف السالب للحدث بدأ في مواقع التواصل الاجتماعي لبعض أطياف المعارضة المسلحة والمعارضة غير المسلحة، بادعاء أن واقع التعذيب الذي تعرض له الصبي له ظلال (عنصرية).. وحمل الصحافي “بيجو” طاراً وأخذ يضرب عليه بشدة، في سياق موقفه السياسي ولكن من الذي (فتح) ثغرة استغلال الحادثة لكل صاحب غرض في نفسه؟.
إن التقاعس عن إدانة هذا السلوك المشين يمثل تواطؤاً مع القتلة والوحوش التي افترست الصبي المسكين وعذبته بالطريقة التي يندي الجبين لها خجلاً.. واقع الفيديو صادم لمشاعر السودانيين ولكن في ظل وجود تيارات في الساحة تبث الكراهية بين أبناء الوطن الواحد، فإن هذه التيارات تساهم بشكل أو آخر في تحريف السلوك الخاص إلى سلوك عام.. وقد تكاثرت على بلادنا الجروح والأحزان والدموع وزادها تعذيب الطفل جروحاً غائرة، لن تندمل إلا برؤية العدالة واقعاً يقتص من هؤلاء الوحوش، الذين هم أحق بالمحاكمة تحت مواد إثارة الكراهية ضد الدولة وتهديد الأمن القومي والسلام الاجتماعي.