مبادرة "أبو اللمين"
التجانى حاج موسى
هاتفني الصديق الفنان الكبير الدكتور “محمد الأمين” يدعوني إلى المشاركة بالحوار في مبادرته للفنانين والموسيقيين والشعراء وأهل الإعلام، التي جرت فعالياتها بنادي الفنانين بالموردة بأم درمان. وفحوى المبادرة الإجابة عن سؤال: هل للفنانين دور في مبادرة الحوار الوطني التي طرحها الأخ رئيس الجمهورية؟! تصدر “أبو اللمين” المنصة وأدار الحوار بروفيسور “محمد سيف الدين” رئيس اتحاد المهن الموسيقية وكان ضيف الشرف الأستاذ الشاعر “فضل الله محمد”، وجلس عن يمينه الفنان الكبير “صلاح مصطفى”، وجلس في المقاعد الأمامية رئيس اتحاد شعراء الأغنية الأستاذ “محمد يوسف موسى”، والشاعر “محمد عبد القادر أبو شورة”، والموسيقار الأستاذ د.”عبد الله شمو”، والفنان الشاب “محمد حسن”، والفنان الشاب “وليد زاكي الدين”، والموسيقار “محمد جوار”، والموسيقي المخضرم “صلاح خليل”، والدكتور الفنان “عبد القادر سالم”، والموسيقار الأستاذ “عثمان النو”، ومجموعة مقدرة من الإعلاميين والصحافيين.. صحيفة (الخرطوم) مثلها الزميل “الزبير سعيد”، و(المجهر) مثلها زميلنا الابن “محمد”، وجاءت مجموعة من الفنانين من فرقة الخرطوم جنوب والسجانة في مقدمتهم الموسيقار الملحن الأستاذ “محمد سراج الدين” وعدد مقدر من أهل الفن.
الذي حدث في تلك الأمسية جدير بالحديث عنه، فالمداخلات والحوار امتد لثلاث ساعات أخرج فيها المتحدثون هواءً ساخناً، وقدموا مقترحات إيجابية في شأن دور الفنان في هذه المرحلة، وكنه الفن المفترض أن يقدم للجماهير.
الكل أكد على إنتاج غناء وطني يواكب المرحلة التي يعيشها أهل السودان واستجابتهم لمشروع مبادرة الأخ الرئيس بضرورة إجراء حوار شامل يغطي كل هموم الوطن.. والحق يقال فقد كانت أمسية ناجحة بكل المعايير.. ومن المقترحات التي وجدت قبولاً بإجماع الحضور إنشاء لجنة دائمة يشترك في عضويتها المغنون والموسيقيون والشعراء والإعلاميون، لتعد برنامجاً ومشروعاً غنائياً وطنياً يهدف إلى تجسيد قيم الوحدة والسلام، ولمّ الشمل ونبذ الفرقة والشتات، وتأكيد أن الوطن بخير وواعد بالخير الوفير.. أطلق البعض على الفنان “محمد الأمين” بطل أكتوبر، ويستحق أن يطلق عليه هذا اللقب، ألم يكن هو من لحن وصدح بملحمة أكتوبر التي صاغها الشاعر الشاب- وقتها- “هاشم صديق” (لما الليل الداجي الطول وفجر النور من عينا اتحول)، فخلدت الملحمة تتلقاها الأجيال جيلاً بعد جيل هي وأغنيات أخرى عرفت بالأكتوبريات.. فـأكد الحضور بأن (وطن الجدود نفديك بالأرواح نجود)، حاضرة والراحل شاعرها “محمد عوض الكريم” حاضر في وجدان أهل السودان، وصوت الصداح الراحل “عثمان الشفيع” لا زال يهز الجماهير عند سماعه لهذه الأنشودة الوطنية العذبة، و(كل أرجائه لنا وطن إذ نباهي به ونفتخر) رائعة الراحل “محمد عثمان” الذي أصبحت كلماته أيقونة الغناء السوداني بلحنها الذي ألفه المطرب العظيم الراحل “حسن خليفة”، بعدها أخذت الأجيال اللاحقة من المغنين والمغنيات يؤدونها.. ولعميد الفن سهم بـ(عشت يا سوداني”.. “لي غرام وأماني في سموك ومجدك عشت يا سوداني..)، والراحل الفنان الكبير “سيد خليفة” وهو يصدح بـ(يا وطني يا بلد أحبابي).. ورائعة الشاعر الراحل “مصطفى التني” (في الفؤاد ترعاهو العناية بين ضلوعي الوطن العزيز).. ولا ننسى حادي ركب حركة النضال الوطني 1923م الشاعر الملحن المغني المناضل “خليل فرح”، وسلسلة غنائه الوطني المحرض (نحن ونحن الشرف الباذخ دابي الكر شباب النيل)، و(عازة في هواك) و(في الضواحي) وأخريات.. ونذكر بالخير كله الموسيقار العظيم الراحل “إسماعيل عبد المعين” وألحانه التي صاغها لعدد من شعراء الوطن الذين نافحوا المستعمر بسلاح الكلمة والنغم كالراحل الصاغ “محمود أبو بكر” الذي صاغ (صه يا كنار) و(ضع يمينك في يدي) و(واجب الأوطان داعينا).. وبرغم ضعف وسائل التلقي والاتصال، إلا أن تلك الأغاني فعلت فعل السحر وتناقلتها الجماهير وسرت بينها كما تسري النار في الهشيم، ووقتها طاردت وسجنت أجهزة المخابرات شعراء ومؤدي تلك الأغاني.. الفنان المناضل الرائع الراحل “حسن خليفة العطبراوي” تم حبسه مرات عديدة بسبب أغانيه (أنا لست رعديداً يكبل خطوه ثقل الحديد) رائعة الراحل الشاعر العظيم “محيي الدين فارس”، وأيضاً (يلا لي بلدك)، فالذاكرة والموروث من تلك الأغاني يؤكد قيمة الكلمة الغنائية الوطنية.
ويبدو أن “أبو اللمين” أراد بمبادرته أن يقول لأهل السودان: (نحن هنا.. حداة ركبكم)، ولعله أراد أن يوقظ المبدع النائم ليؤكد قيمته وأنه بحق يمكن أن يقود المجتمع إلى مرافئ الخير والنور والجمال. ولعله أراد أن يقول في خطابه الذي صاغه أستاذنا “هاشم صديق” في الملحمة وهو في شرخ الشباب و”أبو اللمين” يخطو خطواته الأولى في شارع الإبداع السوداني، ليضع ذلك اللحن الرائع الذي كان ولا زال ثورة في دنيا النغم السوداني. أراد أن يقول إن خطاب الملحمة لا زال ينبض بالحياة، ويشع بالقيم الجميلة يؤكد حب الوطن وقيمة المواطن السوداني وحقه في الحرية والعيش الكريم.. “أبو اللمين” حالة من إبداع لن يتكرر، ومنجم من الإبداع والجمال الذي ظل يبذله لوطنه لأكثر من أربعة عقود من الزمان- متعه الله بالصحة والعافية- لنسمع حداءه الجميل للسلام والمحبة، فهل أدرك المبدعون فحوى مبادرته؟!
والتاريخ يروي لنا مبادرة قبيلة الغناء منذ الحرب العالمية الأخيرة والفنانة العظيمة الراحلة تغني لجنودنا الأشاوس وهم يخوضون معارك تلك الحرب (يجوا عائدين بالمدرع والمكسيم وموسليني يا الطلياني..)، والراحلون “أحمد المصطفى” و”حسن عطية” و”أبو داوود” وثلة من أهل الإبداع علموا منذ وقت مبكر أن للفنون قيمة إستراتيجية في مسيرة وعمار الأمم، والغناء ليس لهواً ورقصاً وفرفشة في ميقات معلوم، بل شيء يسكن وجدان الناس يروح ويثقف ويعبئ الإنسان بالقيم الخيرة والجمال المطلق للدرجة التي صارت الفنون مقياساً لرقي الأمم، وأمة السودان أمة راقية ذات إرث تليد عريق إلى ما قبل التاريخ ونربأ بها أن تحترب وتتقطع أوصالها ويحزن النيل العظيم.
شكراً جميلاً الفنان الكبير “محمد الأمين”، الذي جاءت مبادرته في الوقت المناسب لتعيد للوطن الغناء الجميل الذي يهدئ خواطر الفرقاء ومرحباً بمهرجانات الإبداع في حوار السلام.