بعد رحلة (23) عاماً : سفينة الإنقاذ .. هل ترسو في بر الأمان؟!
{ في صبيحة يوم الجمعة 30 يونيو 1989م استيقظ الناس في السودان فوجدوا أن السلطة التي كانت تحكمهم لمدة (3) سنوات قد آلت إلى (15) ضابطاً من القوات المسلحة، بقيادة ضابط تبدو عليه إمارات التعب، يحمل رتبة عميد اسمه “عمر حسن أحمد البشير”، وقالوا إنهم كونوا مجلساً لقيادة ثورة اسمها (ثورة الإنقاذ الوطني)، وقالت – أي الثورة – إنها جاءت للسلطة من أجل إنقاذ البلاد من الهاوية السحيقة التي كانت تهوي إليها.
ومنذ ذلك التاريخ وحتى اليوم 30/6/2012، مرت (23) عاماً أبحرت فيها سفينة حكومة الإنقاذ في العديد من الأعاصير والرياح الهوجاء والعاصفة، لكنها ما زالت تقاوم، مع أنها غيرت كثيراً من راكبيها وآلياتها، مع احتفاظ قبطان السفينة بقيادته، لكن من بين الضباط الـ (15) لم يتبق سوى ضابطين فقط هما: رئيس الجمهورية المشير “عمر البشير” ووزير شؤون الرئاسة الفريق “بكري حسن صالح”، فيما يقبع عراب الإنقاذ الأول – بعد أن اتضح ذلك لاحقاً – الدكتور “الترابي” في خانة المعارضة في زعامة حزب المؤتمر الشعبي، ومعه أحد هؤلاء الضباط وهو “محمد الأمين خليفة”، ويسعى “الترابي” – في مفارقة غريبة – إلى قلب نظام الحكم بأية وسيلة ممكنة.
{ في ذلك يقول الكاتب وأحد أكبر المدافعين عن الإنقاذ “اسحق أحمد فضل الله”، إنه لا يعدّ ما حدث هو تطبيق لمقولة (الثورة تأكل بنيها)، وإنما هو تطور طبيعي للأشياء.. ويقول “اسحق” لـ (المجهر): (العيب أن تظل نفس المجموعة في مكانها ومناصبها. ما حدث لضباط الإنقاذ هو نوع من التطور السياسي المطلوب، وانتقال من طفولة سياسية إلى نضج سياسي).
{ أما المحلل السياسي والمختص في شؤون الحركة الإسلامية الدكتور “الطيب زين العابدين” فيقول مازحاً: (إن كل شيء في الإنقاذ متحرك، والثابت الوحيد حتى الآن هو رئيس الجمهورية، فهو الوحيد الذي لم يغادر منصبه)!
{ وبالتدقيق أكثر في مجال التحولات التي حدثت للإنقاذ، مع أن جلدها قد تبدل كثيراً بفعل الطقس السياسي، نجد أن أهمّ تحول في النظام هو دخول شركاء جُدد إلى أروقة القصر الجمهوري، الذي ظل ضباط الثورة يهيمنون عليه لسنوات طويلة.. فبعد توقيع اتفاقية نيفاشا في العام 2005م دخلت الحركة الشعبية إلى القصر، واستحوذت على منصب النائب الأول للرئيس – بصلاحيات تصل إلى حق النقض (الفيتو) – الذي ترك البلد – لاحقاً – بما فيها وكوّن دولة جديدة اسمها (دولة جنوب السودان).
وبعد عام جاء “أركو مناوي” رئيس حركة تحرير السودان إلى القصر واستحوذ على منصب كبير مساعدي الجمهورية، ورئيس السلطة الانتقالية بإقليم دارفور بعد توقيعه لاتفاقية أبوجا في العام 2006م، ثم مضى وجاء مكانه رئيساً للسلطة الدكتور “التجاني السيسي” رئيس حركة التحرير والعدالة، الذي وقّع اتفاقاً مع الإنقاذ العام الماضي برعاية قطرية.. كما دخل إلى القصر الجمهوري أيضاً “موسى محمد أحمد” رئيس جبهة الشرق وتولى منصب مساعد رئيس الجمهورية وعدد من ولايات شرق السودان.
{ في هذا الصدد، يقول الدكتور “علي الحاج” أحد أكبر مهندسي ومفاوضي الإنقاذ الأوائل، الذي اختار المعارضة من الخارج، يقول إن الحكومة مورس عليها ضغط شديد حتى قبلت ما لم تكن تريد أن تساوم عليه، ويوضح “الحاج” خلال رسالة بالبريد الإلكتروني من ألمانيا حيث يعيش هناك، أن الحركة الإسلامية خسرت أكثر مما كانت تخطط له (ما قدمناه نحن من وثيقة في المؤتمر الشعبي للحركة الشعبية كان منصفاً ومعقولاً، الآن الاتفاقيات جعلت من الحركة الإسلامية في هامش السلطة وفي المركز!).. مع أن الدكتور “أمين حسن عمر” القيادي في حزب المؤتمر الوطني يقول إن الفكرة الأساسية من الانقلاب هي الخروج من شفير الهاوية ومن ثم تنظيم الانتخابات، وأوضح قائلاً: (كنا نخطط لقيام انتخابات في كل البلاد بعد ثلاث سنوات فقط لكن حُوربنا بضراوة ومن كافة الجبهات، فاضطررنا للقتال وبعد أن هدأت الأمور أقمنا الانتخابات في العام 1996م).
{ إزاء كل ذلك، يقول قادة الحركة الشعبية والأحزاب اليسارية، إن الإنقاذ اضطرت للتخلي عن بعض الشعارات التي كانت ترفعها وتقول إنها (مبادئ) لن تحيد عنها، مثل التحكيم بمنهج الشريعة الإسلامية باعتبار أن السودان دولة إسلامية، وذلك انها ارتضت ما يشبه المنهج العلماني لحكم السودان بعد توقيعها اتفاقية نيفاشا.
{ فيما يرى د. “أمين” أن الثورة لم تتخل عن مبادئها، خاصة تلك التي تتعلق بتحكيم الشريعة الإسلامية، وقال إن الحركة الشعبية هي التي ارتضت أن يحكم السودان بالشريعة الإسلامية: (صحيح أن الحركة الشعبية تحكم الجنوب كجغرافيا وفق المنهج العلماني إلا أنها ارتضت أن تُحكم بقية أنحاء السودان وفق الشريعة الإسلامية وهو ما يراه الجميع في السودان، نحن لم ولن نتخلى عن مبادئنا إطلاقاً).
{ غير أن الدكتور “الطيب زين العابدين” يقول إن الشريعة لم تطبق أصلاً كما ينبغي، وهي ليست محصورة في الحدود: صحيح أن اتفاقية السلام كانت قد قنّنت للشريعة لتطبّق في الشمال لكنها لم تطبّق بمفهومها الذي يدعو إلى العدل والحرية، والآن نحن نفتقد هاتين القيمتين.
{ ويرى مراقبون أنه في كل مرة يأتي فيها قادم جديد إلى القصر الجمهوري ليشارك حكومة الإنقاذ السلطة، حتى لو تحت مسمى حكومة الوحدة الوطنية كما كان سابقاً أو حكومة القاعدة العريضة كما في الوقت الحالي، يجأر بالشكوى لطوب الأرض من أن بعض الإسلاميين بالقصر الجمهوري لا يفون بالعهد ولا يلتزمون بالمواثيق، وأن كل همّهم ينصب فقط في الجلوس في السلطة، بينما يرضخ الآخرون لتعليماتهم فقط، ونتيجة لذلك، اختارت الحركة الشعبية الانفصال نهائياً وأنشأت قصراً خاصا بها، ثم تبعها “مناوي” الذي يعيش في الخارج وتقاتل قواته في دارفور القوات الحكومية.
{ وينبري “اسحق أحمد فضل الله” مرة أخرى ويدافع عن الإنقاذ بقوله إنها لم تتخل عن مواثيقها ومبادئها وإنما الآخرون من يفعلون ذلك، ورسم صور متقاربة كما يلي: (الإنقاذ لم ولن تتخلى عن مبادئها وهي سعت إلى السلام وحرصت عليه.. لكن الآخرين الذين دخلوا إلى القصر الجمهوري كانوا يريدون أن ينفردوا بالقصر من خلال محاولة الإطاحة بنظام الإنقاذ.. وما تفعله الحركة الشعبية في الوقت الحالي من محاولاتها الرامية إلى احتلال هجليج ومناطق أخرى ودعهما لمتمردي دارفور أكبر دليل على ذلك).
{ ومرة أخرى يعود “زين العابدين” ويقول إن الصورة التي يراها ليست كما رسمها “فضل الله”، فهو يؤكد أن الحكومة يديرها أفراد قليلون، وأن أهمّ إنجاز عندهم هو المحافظة على هذه السلطة، حسب تعبيره، وقال إن صنع القرار صار الآن في يد المؤسسة العسكرية وليس الحركة الإسلامية، وهو الأمر الذي أضفى صفة القداسة على المؤسسة العسكرية في الوقت الحالي، (هنالك جهاز اسمه مجلس شورى الحركة الإسلامية ولكنه محض ديكور ولا يقوم بالحل والعقد).
{ في الأسبوع الماضي، وطبقاً لما نقله المستشار الصحافي السابق للرئيس “محجوب فضل بدر”، فإن النائب الأول لرئيس الجمهورية “علي عثمان محمد طه” قد اعترف خلال مخاطبته حشداً من طلاب الحركة الإسلامية في أحد المعسكرات بالأخطاء التي وقعت من البعض في التطبيق أثناء سنوات الحكم، وتعهّد “طه” باسترداد كل الأموال التي ذهبت بالحسنى أو بغيرها، بل إنه قد ألهب حماس المجاهدين لدرجة أنهم رفعوه على الاكتاف عندما قال: (نحن في آخر عمرنا ده ما بنفرط في بلادنا ولا عقيدتنا.. ومستعدين للمحاسبة ولا كبير على الحساب.. والكلام معلن، ومافي مانع من نشره، والحاضر يبلغ الغائب). وكلام النائب الأول جاء على خلفية الرياح العاتية والهوجاء التي تواجهها حكومة الخرطوم في الوقت الحالي، عندما طبقت سياسة اقتصادية تقشفية قاسية، أدت إلى ارتفاع أسعار السلع الاستهلاكية بعد أن وصل الاقتصاد السوداني إلى مرحلة حرجة باعتراف وزير المالية “على محمود”، وإزاء ذلك، خرج عدد لا يستهان من المواطنين إلى الشوارع، ويخشى مراقبون أن تتحول هذه الاحتجاجات إلى ثورة عارمة على غرار ما وقع في بعض البلدان العربية.. وبدا رئيس الجمهورية واثقاً من أن ظاهرة الثورات العربية لن تصل إلى السودان بسبب ما قاله من أن السودان قد سبق هذه الدول إلى الثورات. ويرى “البشير” خلال أكثر من مخاطبة جماهيرية أن (الشعب السوداني يحب الإنقاذ، وأنه جاء بثورة الإنقاذ.. وأن السودانيين سيحمون الثورة لو اقتضى الأمر).
{ ويعدّ الكاتب الصحافي الدكتور “خالد التجاني” أزمة الإنقاذ الحالية سياسية في المقام الأول، وأدت إلى الأزمة الاقتصادية.. وقال: (إن الحكومة وطوال فترة حكمها ظلت تعمل بنظرية الابتزاز والكيد السياسي بدلاً عن المحاصصة السياسية)، ودعا الحكومة إلى النظر لشعاراتها التي رفعتها منذ مجيئها الداعية إلى إنقاذ البلاد، ولتنظر أين تقف من تلك الوعود وإلى أين وصلت البلاد الآن؟ مضيفاً بالقول: (عادت البلاد إلى وضع هو أخطر مما كانت عليه من قبل.. تم تقسيمها، واتسعت رقعات التمرد، وباتت مهددة بمزيد من التشرذم، وها هي على شفير الإفلاس)، ونصح التجاني قادة حكومة الإنقاذ بقوله (جنّبوا شعبكم مشقة التغيير ما استطعتم).
{ في واحدة من أشهر الأدبيات في عهود الإنقاذ الأولى، نشيد تنشده إحدى الفرق التي ظهرت وقتها، ويقول أحد مقاطعه (سفينة الإنقاذ سارت لا تبالي بالرياح)، وما زالت سفينة الإنقاذ تسير، لكنها تبالي – هذه المرة – جداً بالرياح التي تواجهها بسبب أنها عاصفة اقتصادية عاتية يمكن أن تؤدي إلى إغراق السفينة بمن فيها.. ولكن هل ستنجو هذه المرة وتتحقق نبوءة “اسحق” الذي قال إن كل الأحزاب وبكل مسمياتها واتجاهاتها ستظل محض زوارق صغيرة تحيط بسفينة الإنقاذ الضخمة؟!