البليد !!
مشروع السودان الجديد إلى لعنة طالت كل المؤمنين به والداعية إليه والناشطين فيه، ففي كل حقبة ومنعطف يتهدم بنيانهم ويخر عليهم السقف بالإحن والثارات ويقيض الماء فلا يستطيعون له جلباً في متاهات التيه، فمنذ ذهاب العقيد “جون قرنق” عراب فكرة المشروع والمبشر به لا يخرج جيش التحرير وحزبه المؤمن برفع السلاح وفرضيات العنف، إلا من فشل إلى آخر، فقد حاق بهم المكر السيئ في جنوب السودان يوم أن أهدروا الدولة الوليدة وأسلموها لحرب القبائل وخرافات الممالك، حتى صار الجنوب شلواً ممزقاً بعد أن اكتشف أهله المساكين الذين بشروا بالسودان الجديد أنهم سيقوا إلى حتفهم فآثر أغلبهم العودة للسودان القديم.
كان الفشل الثاني في (دارفور) التي رغم سخاء الدعم والإسناد الدولي من أجل تحويلها لأنموذج للتثوير وتطبيق عملي لنضالات الهامش بأدبيات السود والأفريقانية وعلمنة المنطقة، فقد انتهى الأمر بالحركات والجماعات الموكل إليها الأمر إلى خسارات فادحة، فقد قضي على غالب قيادات الصف الأول من الحركات فهم إما قتيل أو أسير أو عائد إلى قريته متنكراً ليعيش مزارعاً أو راعياً، وانتهت القوة العسكرية للحركات لتكون محض مليشيات تقاتل لمن يدفع فيما احتفظ ثلاثة أو أربعة بديباجات وأختام الحركات يوظفونها في أنشطتهم التجارية والدعائية، ولكن على واقع المشروع والأرض لم يعد من أحد ليثير حماسة أحد أو خوفه.
أما قطاع الشمال فإنه كان (البليد الأكبر) وعلى الرغم من أن قياداته يظنون أنهم حازوا إلهاماً من الآباء المؤسسين لفكرة الثورة والكفاح المسلح والسياسي في السودان وجنوب السودان، فإن أوضح تجليات الفشل تبدت في هذا القطاع الذي بلغ به الاحتفاء بالتقليد مبلغ محاولة حشد النقائض في تكوين واحد سمي الجبهة الثورية، مع العمل على احتوائه من الداخل والخارج. فات على “عرمان” أن مصارع الرجال تحت بروق الطمع أن تكوينات (انتحال الشخصية) هذه لم تعد ذات فائدة، فالرجل إن أتاه شخص من غمار كوادر الأحزاب والطائفية قدمه ومنحه صوتاً وأسبغ عليه صفة بهية التفاصيل، وهكذا كان يفعل في كثير وبطريقة استعراضية جعلت كثيراً من السياسيين محض مهرجين في مسرح “عرمان”. وهذا بالضرورة ينتج تنظيماً بلا قيمة أو لمن سيكون قوياً ولو بسلطة من شاكلة تداول للرئاسة أو بالعامية من يمسك اللعب !
الثورية رجالها تبع لمن غلب، هكذا هو مفهوم الأحلاف والانحيازات في مشروع السودان الجديد، ولهذا حينما آل الأمر لجبريل ركل “التوم هجو” قائده “عقار” ومثل هذا ما حدث يوم أن صعد “سلفاكير” لسدة الحكم في جنوب السودان، إذ لم يجد “عرمان” و”ألور” و”باقان” ممن يظنون أنهم مفكرون وعلماء بداً من إتباع الزعيم الجديد، كاد “عرمان” أن يرشق الرجل بقصيدة من تلك القصائد البائسة التي يتملق فيها الزعماء ثم كف عن هذا بعد نصيحة من أحدهم بأن الرئيس الجديد لا يستلطف الشعر!.