خربشات (الجمعة)
{ خرجت من قرية الكويك التي أصبحت الآن محلية الريف الشرقي لمدينة “كادقلي” حوالي الساعة الرابعة صباحاً في الأسبوع الأخير من شهر أبريل ،وجدي الناظر “البشرى سومي” آخر ناظر لعموم قبائل الحوازمة في السودان ،والنائب البرلماني في ستينات القرن الماضي، حزب أمة قومي، بقامته السامقة وبشرته البيضاء وسمو خلقه وعفة لسانه وعزة نفسه، التي تأبى له الانضمام لركب الإنقاذ، رغم قناعته بأنها حكومة جديرة بالاحترام والتقدير. وكان رحمة الله عليه حينما نجلس أمامه، وخالي العقيد “الشفيع الفكي علي المأمون”، و”يوسف سعيد” الشهير (بالكو) و”تاور المأمون” ، يعدد لنا مآثر الإنقاذ وحسناتها وقليلاً من سيئاتها، ولكنه يقول (يا أولادي بعد العمر دا لو انضميت لكم لن يحترمني أحد سأظل أنصارياً وفي عنقي بيعة للإمام “الهادي”. خرجت من منزل جدي العامر بالناس وطالبي الخدمة.. والباحثين عن نصيحة شيخ مثل “البشرى سومي” ، قاصداً جبال الكواليب شرق “الدلنج”، حيث يتواجد شقيقي “عبد المنان” الشهير بالشاعر في مزرعة ، بمنطقة (مرديس) التي أصبح الوصول اليها الآن عصياً.. ولن تبلغها إلا إذا أعددت جيشاً عرمرما حيث يسيطر عليها التمرد الآن .. ودعني جدي بكلمات وأدعية وكان الصيف في جبال النوبة قد بدأ في التقهقر شمالاً، وأخذت نسائم الخريف تهب في الساعات الأولى من الصباح ونحن في فصل النطح الذي قال فيه شاعر من البادية:
غاب نجم النطح والحر علينا اشتد
صيفنا قصر ليليو ونهار امتد
بنظرة المنو للقانون بقيت أتحدى
فتحت عندي منطقة الغنا الانسد
وكان الغناء حاضراً في الرحلة التي كان رفقاء دربي فيها الأخ “ياسر مختار حسن” و”محمد أحمد منان” المراجع الشهير، والسيارة (البوكس) تنهب الشارع الأسفلت حتى منطقة الكرقل التي شهدت نهاراً جهاراً في سنوات الحرب الحالية مقتل “محمد إبراهيم بلندية” الذي لم يشفع له وجود أخته “زينب” وابنته الطالبة بكمبالا .. قتلوه بالرصاص الساخن وتركوا في نفوس الأغلبية في الداخل الصمت والفجيعة والألم .. وقبل أن ينقشع ظلام الليل وتتسلل خيوط الفجر كانت السيارة قد توغلت في قلب المشاريع الزراعية المطرية.. تشعبت الدروب.. وما عدنا نميز بين طريق يحملنا إلى (دلنج الخلا) أو منطقة أم حيطان جنوباً .. أو لجبال الكواليب .. من بعيد مع أضواء السيارة ظهرت قطاطي.. ولكن الصمت الشديد يلف القرية.. توقفت أمام منزل شيد حديثاً وأخذت أطلق صافرات الإنذار، فالبيوت هنا.. بلا أبواب.. ولا جرس.. ولا حتى رقيب خوفاً من حرامي يتسلل إلى الغرف.. خرجت فتاة دون العشرين في كامل أناقتها .. تفوح منها رائحة عطر نفاذ (بخور) وقفت بالقرب من السائق فقالت أهلاً وسهلاً تفضلوا !! قلت لها إننا تائهون نبحث عن الطريق الذي يقودنا إلى جبال الكواليب .. تراجعت خطوتين (ورطنت) مع شخص يختبئ خلف سور من العشب الجاف، أطل شاب قصير القامة عليه سمرة.. رحب بنا وطلب منا النزول لتناول الشاي، رفضنا وركب إلى جواري تفوح منه ذات رائحة فتاة القرية.. سار معنا لأكثر من كيلو متر حتى بلغنا شارع اللواري.. حاولت إقناعه بإعادته لمنزله رفض وهو يحمل بندقيته على ظهره.. سألته لماذا لم تخرج أولاً لاستقبالنا .. ضحك وقال حسبتكم أعداء وفي تقاليدنا أن المرأة لا عدو لها .. كنت اختبئ بالقرب منكم ويدي على الزناد أي إشارة منها كفيلة بإطلاق النار على السيارة!! لقد تعلمنا في كوبا ومدرسة الكادر بإثيوبيا كيف يتفوق الفرد على المجموعة بكثافة النار والمباغتة.. إذن أنت عسكري .. قال لا ضابط سابق في جيش التحرير تركت الحرب وتزوجت الأسبوع الماضي ،ولن أعود مرة أخرى لميادين القتال.. أما أين هو الآن تلك قصة أخرى . ولكن السيارة أخذت تنهب الأرض نحو جبال الكواليب والمطرب “كمال ترباس” يتسلل صوته العذب من الزجاج المفتوح ليطغى على صوت الماكينة.. و”ترباس” يصدح بأغنيات “عوض جبريل”:
سبيل الزول عشان يفتح طريق يادوب
بيكون زادوا البشيلو معاهو
شوق مشبوب
عشان يلقى انتصارو يا زمن محبوب
يضوق المرة ويتوشح بصبر أيوب
والصبر على مشقة الأسفار في البوادي البعيدة والجبال الشاهقة والدروب الصعبة.. وقد أخذ الطريق يتلوى بين الجبال كالأفعى التي أرهقها المسير في الأرض الرملية الجافة.. وحينما لاحت بشائر الفجر بلغنا جبال الكواليب.. أرض طينية غنية بالمعادن.. أناس على طبيعتهم الخاصة.. ولكن التمرد الآن جعل جبال الكواليب لا يمكن الوصول إليها بعد أن كان السير ليلاً في الجبال سياحة نادرة.
(2)
بعض من قادة المجتمع في الأحياء السكنية والمحليات بولاية الخرطوم يختارون الانحياز إلى البسطاء الفقراء المعوزين ملح الأرض من الذين ينتظرون رحمة الله الواسعة وأبوابه التي تفيض بالخير في العشية والصباح، وبعض القيادات المجتمعية في اللجان الشعبية والأحياء يختارون الوقوف مع موظفي الحكومة حتى لو كانوا ظالمين للرعية، وذلك ابتغاء منفعة حاضرة أو مؤجلة.. أو باعتقاد ساذج أن موظفي الحكومة هم رسل المشروع السياسي للدولة، ولكن مولانا “حسن العطا” القيادي في المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية بالحارة (20) شخصية نادرة على طريقتها الخاصة. كتب إلى هذه الزاوية بحبر دامع وحسرة وألم عن ما يعانيه الفقراء والمساكين في الحارات القصية، حيث تدفع الدولة إعانة اجتماعية شهرية تبلغ (150) جنيهاً للأسرة المتعففة.. وهي مبالغ في بعض الأحيان لا تصل إلا بعد شهور.. وقبيل عيد الأضحى المبارك بدأ الصرف لهؤلاء الفقراء ,ولكن يا حسرة لقد رفض الموظفون في آخر أيام ما قبل العيد الصرف لما تبقى من المحتاجين وأعلنوا عن بدء الصرف بعد العيد. وفي تلك الأثناء صرخت امرأة كانت تضع كل أمانيها على الإعانة الشهرية.. ولكن جاء الإعلان الصادم بأن الصرف بعد العيد .. تجمع بعض المتعففين وجمعوا لها مما صرفوا شيئاً. عملاً بالقول المأثور (الفقرا تقاسموا النبقة). انقضى العيد السعيد وبدأ الصرف يوم 14/10 تجمع المئات من كبار السن والمعاقين والمرضى يحدوهم الأمل في الحصول على شيء خير من لا شيء.. ترامت الصفوف.. رجالاً ونساءً وجلس البعض على الأرض بعد أن أقعده المرض في منظر ليت ابنتي “مشاعر الدولب” غبرت قدميها يوماً في سبيل الفقراء ،وألقت نظرة عليهم. بعض المساكين والفقراء يزحفون في هجير الصيف.. ولسعات أشعة الشمس وحينما يبلغون شباك الصراف يقول لهم الصراف (اسمك سقط) هذا الشهر تعال الشهر القادم.. هكذا ينصرف المواطن المسكين وأسفه في عيونه وحسرته على الذين أسقطوا اسمه كيف ولماذا .. انتهى حديث مولانا “حسن العطا” ليبقى التساؤل : هل هناك جهات مستفيدة من أكل حقوق المواطنين بالباطل ودون وجه حق؟
وكل (جمعة) وأنتم بخير.