التسيب الوظيفي.. ابحث عن المدير.. (2-2)!!
التسيب.. هل يجعل الراتب حراماً؟
الخبير الاقتصادي البروفيسور “عثمان خيري”: أي مؤسسة لو فرغت 90% من موظفيها لن تحدث أي مشكلة
قضية يطرحها – عماد الحلاوي
رواية الأديب العربي الكبير توفيق الحكيم (يوميات نائب في الأرياف) تحكي قصة موظف يعمل بأمانة وينجز عدداً كبيراً من الملفات يومياً، فيبقى مكتبه نظيفاً، لكنه غير مقدر، الموظفون الذين لا يشتغلون مثله يرتقون بسرعة في السلم الإداري ويحصلون على علاوات، وعندما لاحظ أحد أصدقائه ذلك، قال له: يجب أن تغيير خطتك، عليك أن تنجز أقل ما يمكن من الملفات يومياً، مثلاً، أنجز خمسة ملفات بدلاً من خمسين. وبالفعل تراكمت الملفات على مكتبه، وأصبح من الضروري تعيين موظفين آخرين لانجاز العمل.
ولما استمر الأمر كذلك، سأل الموظف رئيسه: ببساطة ألا يستدعي وجود هؤلاء الموظفين الجدد واحداً يرأسهم؟ فأجابه مباشرة: أنت مدير المكتب منذ الآن!.
مثل هذه القصة بما تحتويه من أبعاد نفسية، واجتماعية تتجسد ملامح مأساة ثقافية سلبية تكرست في بعض عقول ونفوس الموظفين، وأصبحت إرثاً اجتماعياً تعاني منه أغلب مرافقنا الحكومية، وبطبيعة الحال تبرز مثل هذه النماذج التي تحولت إلى نفوس محبطة تتفنن في تعطيل العمل، وتأخير الإنجاز، ونشر جو من التخاذل والتسيب بين الزملاء بعد أن كانت تسودهم محبة للعمل والإنتاج.
ومن المفارقات الغريبة أن مثل هؤلاء يرتقون سلم الترقيات في الوظيفة العامة في حين يهمل الموظف المنضبط والمنتج.
(المجهر) سبرت أغوار هذه الكارثة المتلازمة لتكوين موظفي الخدمة المدنية، ووجدت أن ظاهرة التسبب ليست وليدة الصدفة ولكنها نتيجة ظروف وعوامل ومتغيرات متعددة تفاعلت مع بعضها لتكون البيئة التي ساعدت على ظهور هذه المشكلة، وكونت المسببات الرئيسية لهذه الظاهرة التي تهدد خطط التنمية بشكل مباشر. والتي تضافرت فيها العديد من السلبيات الموجودة في كل من الدولة ومؤسساتها وطريقة إدارة القطاع العام، وكذلك المفاهيم والعادات الاجتماعية السيئة المرتبطة بالفرد والمجتمع، التي شكلت بيئة اجتماعية تساعد على التسيب، وكذلك سوء الإدارة في منظمات القطاع العام وعدم توفير البيئة المناسبة لقيام الموظفين بأعمالهم بالشكل المطلوب.
أشكال مألوفة
فمن أشكال التسيب المألوفة أن يخرج الموظف تحت غطاء إنجاز مهام عمل خارجية لا يعود بعد إنجازها ويستهلك بقية الدوام خارج العمل.
وهناك من يفرط في استخدام أدوات العمل والتجهيزات والآليات الخاصة بالعمل، لأغراض شخصية وتحقيق منافع خاصة، إهدار ساعات العمل في الحديث المطول عبر التلفون أو الثرثرة مع الزملاء وتعطيل مصالح الناس.
وهناك من يخرج أثناء الدوام لإنهاء عمله الخاص، إضافة إلى الغياب المتكرر بدون عذر مفتعلاً مبررات يتحايل بها على النظام، ولا نغفل عن نقطة الحضور المتأخر والوصول إلى الدوام الساعة العاشرة صباحاً، ونادراً ما نجدهم داخل مكاتبهم بعد الساعة الثانية عشرة ظهراً، هناك من يكون حضوره لمقر العمل لحظة التوقيع على الحضور والانصراف فقط.
وتصل عدم المبالاة إلى قيام بعض الموظفين بتمرير العمل بأية صورة كانت من دون مراجعة وتدقيق وإخلاص أو المماطلة وتأخير العمل دون أسباب موضوعية.
ليس راتباً وإنما إعاشة
الخبراء الاقتصاديون يحملون الحكومة مسؤولية تدهور الخدمة المدنية ويتهمونها بالتدخل السياسي وعمليات التطهير وتضارب السياسات، مما أقعد الخدمة، واستنكروا جهود الإصلاح التي بذلتها الدولة، مؤكدين بأنها لم تحقق الهدف، وحيث قال الخبير الاقتصادي البروفيسور “عثمان خيري” لـ (المجهر) إن وجود جيش جرار من الموظفين، خطأ المنهجي في الحكومة والدولة.
وطالب “خيري” الدولة بالتخلي عن التوغل في بعض الشؤون الخدمية، وعد التوظيف في المؤسسات الحكومية من باب الإعاشة، قائلاً: أية مؤسسة لو فرغت 90% من موظفيها لن تحدث أية مشكلة وحمل الحكومة مسؤولية تدهور الخدمة المدنية، من جهتهم استنكر عدد من المتحدثين واقع الخدمة المدنية، وطالبوا بإلغائها أو تضميرها برفع الدولة يدها عن الاقتصاد، وقالوا الخدمة المدنية تحتاج إلى جراحة مؤلمة، وإعادة هيكلتها بإرادة سياسية وإعادة تأهيل قدرات العاملين، واستنكروا تقديم طلبات للالتحاق بالخدمة المدنية، ووصف رئيس الجلسة الدكتور “الكندي يوسف” الخدمة المدنية بالمتدهورة ومصابة بالقصور وعدم وضوح أهدافها منذ الاستقلال، ويرجع ذلك إلى تعدد وتباين أنظمة الحكم بالسودان، إضافة إلى التدخل السياسي وتضارب الاختصاصات مع غياب الوازع الديني، وفقدان العدالة في الخدمة. من جهته قال “عبد القادر التجاني” إن النظام المتبع حالياً في الأجور وعقود العمل سيؤدي إلى تردي الخدمة أكثر، داعياً إلى النظر للخدمة المدنية في إطار سياسة التحرير الاقتصادي من خلال انتهاج عقود عمل بين المخدم والمستخدم.
وذهب الخبير الإداري اللواء معاش الدكتور “محمد خوجلي الأمين” وقال بأن الدولة تحتاج إلى إستراتيجية شاملة للتخطيط بصورة سليمة، وقال بأن (70% ـ 80%) من الإيرادات تذهب في الصرف على إدارة الدولة (مرتبات للموظفين )، ودعا إلى مؤتمر لعمل إستراتيجية للإصلاح الإداري.
الآثار الاقتصادية
هناك العديد من الآثار التي تنتج عن قصور الإدارة في القيام بواجباتها المنوطة بها لعل أهمها ارتفاع تكاليف الخدمات وإرهاق الموازنة العامة بمبالغ طائلة دون الحصول على ما يقابلها من خدمات وإنتاج، تكلفة الخدمات نتيجة الرواتب الكثيرة التي تدفعها الموازنة العامة للموظفين، إذ يمكن الاكتفاء ببعضهم للقيام بالخدمات المطلوبة. وكذلك الإسراف في هدر الأدوات المكتبية والاستهلاك غير العادي للأصول المختلفة كالسيارات وآلات الطباعة والتصوير وقطع الأثاث وغيرها، وبالمثل أيضاً، إهدار الزمن الذي يحدث نتيجة تردد المواطن على مكتب الموظف مرات ومرات للحصول على الخدمة المطلوبة، أو بقاءه ينتظر الساعات الطوال لحين مقابلة الموظف، وفي كل هذه الحالات يكون هناك زمن مهم قد ضاع هدراً، وعدم القدرة على تخطيط وتنفيذ خطط الدائرة في الحدود المرسومة لها من حيث التكاليف والزمن، فكثيراً ما تتعثر خطط القطاع العام لأسباب فنية ترجع إلى الإدارة، وأخيراً يظهر تأثير التسيب الإداري بشكل واضح في مجال النشاط الاقتصادي والإنتاجي والخدمي، ففي ظل هذا التسيب تصدر التراخيص للأفراد بطرق ملتوية وغير قانونية ولا يراعى في إصدارها الضوابط القانونية التي وضعت لتحقيق النمو والتقدم، وبمرور الزمن يعاني قطاع الخدمات من الفوضى والارتباك في جانب والتخلخل في جانب آخر، وزيادة النشاطات الطفيلية المدرة للأرباح بدون أية إضافة للقيمة الحقيقية للثروة بالبلاد، وهذا لا يخدم قضية محاولة الخروج من دائرة التخلف التي يجب أن تحشد في سبيلها كل الجهود والإمكانيات.
الآثار الاجتماعية
من أبرز الآثار التي يمكن أن تنجم عن استمرار التسيب الإداري بمظاهره المختلفة يتمثل في استمرار سيطرة النظم الاجتماعية على الفرد والجماعة، فإذا كان الموظف يحصل على وظيفته بالوساطة والمحسوبية، ونتيجة تدخل من قبل قريب له من بين أفراد عشيرته (بل وقد يكون استمراره في هذه الوظيفة والحصول على الترفيعات والعلاوات المقررة يتم بنفس الطريقة)، فليس من المتوقع أن يخرج هذا الموظف عن الدور الذي ترسمه له التقاليد العشائرية، وبالتالي فهو سيمارس نفس الدور المطلوب منه، وبالتالي إلى مزيد من الترسيخ لهذا الدور الرجعي والمؤثر على الأداء في الوظيفة العامة، وبمرور الزمن يزداد الإنسان التقليدي قوة واستمراراً ورسوخاً على حساب القوانين والنظم الرسمية، وكذلك عدم تكافؤ الفرص بين المواطنين في الحصول على الخدمات المختلفة، ولهذه الحالة تأثير مستقبلي من الصعب التنبؤ بنتائجه، ويظهر ذلك واضحاً في مجال الوظيفة في عدم وضع الشخص المناسب في المكان المناسب.
رأي قانوني
ويقول الخبير القانوني الدكتور “بركات موسى الحواتي”، إن الخدمة المدنية أو الوظيفة العامة عنصراً من أهم عناصر التغيير (هي كالمضغة إذا صلحت صلح الجسد).
وأضاف في حديثه لـ(المجهر) أن الخدمة المدنية في هذا الوضع الماثل هي التي تؤكد على حيوية تحقيق السياسة العامة أو فشلها على مستوى التنفيذ.
لذلك لم تكن صدفة حينما قالوا إن فشل الخدمة المدنية يعني فشل الحكومة وإن نجاحها يعني نجاح الحكومة والحكومة تقيّم دائماً في الأدبيات القانونية والإدارية بنظرتها للعاملين فيها، فإذا أكرمتهم كانت كريمة وإذا لم تكرمهم فذلك يعني وصفاً آخر.
وأوضح “الحواتي” البدايات الأولى نشأة الخدمة المدنية بعد معركة كرري على يد أهل الاستخبارات العسكرية من ضباط الجيش البريطاني والشوام والمصريين منذ سنة 1902م غالى بدايات إشراقات الحركة الوطنية لإيجاد شيء من الوعي وعرف بذلك معنى الخدمة المدنية ودورها.
ويضيف أن الوظيفة العامة تمثل الأداة الأساسية في التعبير عن نجاح (مؤسسية الدولة) في تحويل الغايات والأهداف (من خانة الأحلام والأماني إلى خانة الواقع – وهي تمثل المستوى الأدنى – للسلطة التنفيذية (أحد سلطات الدولة العامة) الذي يعنى بالوظيفة الإدارية ( تنفيذ السياسة العامة – أما المستوى الأعلى (الجهاز السياسي)، فهو الذي يقوم (برسم السياسة العامة) وتختلف تلك السياسة العامة بين نظام سياسي وآخر (ليبرالي، اشتراكي – إسلامي) إذا تمثل نظاماً فرعياً، لذلك النظام السياسي – بتفاعل مدخلاته – ومخرجاته – سواء بتحقيق الرضاء العام أو تسبب التوتر العام، (فالوظيفة العامة ) هي العنصر الجوهري في نجاح أو فشل أي نظام سياسي وقد مثلها بعض الفكر – بالدورة الدموية في الجسم الإنساني – تؤثر وتتأثر بما في داخلها وبما حولها.
رأي الدين
ويقول الشيخ الدكتور “خليفة محمد موسى” أستاذ أصول الدين بجامعة أم درمان الإسلامية إن من ولي شيئًا من أمر المسلمين وجب عليه أن يؤدي الأمانة فيه، كما قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا…[النساء:58].
والموظفون هم أحد أصحاب الولايات، وبهذه الولاية استحقوا عطاءً من بيت مال المسلمين، كما قال شيخ الإسلام “ابن تيمية” رحمه الله، وهو يتكلم عن وجوه صرف الأموال من بيت المال. قال: ومن المستحقين ذوي الولايات عليهم كالولاة والقضاة والعلماء، والسعاة على المال جمعاً وحفظاً وقسمة، ونحو ذلك، حتى أئمة الصلاة والمؤذنين ونحو ذلك.
فمن ولي في وظيفة وأعطي على ذلك عطاءً وجب عليه أن يقوم بهذه الأمانة،
فإذا ضيع هذه الأمانة تهرب من عمله بغير عذر ووجبت مساءلته ورفع أمره إلى من ولاه.
ففي كل بلاد الله ينظر لأداء الموظف لعمله كواجب أخلاقي وديني، لأنه مسؤول عن أداء أعمال وظيفته التي يأخذ عليها أجراً يعيش منه هو وأهله وعياله، وسيحاسبه الله على أداء هذا العمل، وعلى المستوى الذي يؤديه به، وذلك وفق القاعدة الإسلامية «من أخذ الأجر حاسبه الله بالعمل»، والقاعدة النبوية الأخرى حول الجودة والتي تنص حسب المنطوق النبوي «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه».
من المحرر:
بعد استقراء متأنٍ لواقع (الخدمة المدنية)، على المستوى القومي وفي قراءة موضوعية للمظاهر والأسباب التي سبق استعراضها، وبعد التأكيد على أن من نتائج ذلك المباشرة تحويل (المشكلة) بصورتها المطروحة في (حلقتين ) لتكون (أزمة) فعلية لها انعكاساتها الخطيرة على النظام الاجتماعي والنظام السياسي والنظام الاقتصادي.
كل تسيب وظيفي بالغياب أو هروب من الدوام، هو جزء من الفساد في جسد هذا الجهاز الوظيفي، والعلة في كثير من الأحيان تكمن في بعض القيادات الوظيفية التي تشجع الموظف القريب على الهروب من العمل، والمطلوب إصلاح القيادات أولاً ثم محاسبة الموظف.