تقارير

ما وراء المخطط الدولي للتدخل الإنساني في دارفور والمنطقتين

صراع فرقاء الدوحة يثمر لصالح التمرد والمعارضة والتدخل الأجنبي
ما حدث في (السلام روتانا) يعزز دعاوى فشل “اتفاق الدوحة”
حديث السبت
يوسف عبد المنان
هل كانت الحكومة على علم مسبق بوجود مخطط في مجلس الأمن الدولي لجرها مرة أخرى إلى مقصلة العقوبات والتدخل بدواعٍ إنسانية؟ أم كانت لا تعلم شيئاً؟ وهل قرار مجلس الأمن والسلم الأفريقي هو البداية أم النهاية؟؟ قبل ثلاثة أسابيع خرج البروفيسور “إبراهيم غندور” من الخرطوم بطائرة خاصة إلى قلب أفريقيا (حاملاً) رسائل من الرئيس لعدد من القادة الأفارقة، وذلك استباقاً لما سيحدث من قبل الاتحاد الأفريقي، وغطت الحكومة على الأسباب الحقيقية لتلك الجولة على البلدان الأفريقية، بالحديث عن مشاورات مع القادة الأفارقة من أجل خروج قوات (يوناميد) من دارفور من خلال خطة متدرجة!! ولكن مجلس الأمن والسلم الأفريقي أصدر بيانه في 15 أغسطس الجاري بأديس أبابا.. وأبدى فيه قلقاً حيال ما يجري في دارفور، وادعى أن قتالاً قد تصاعد في الفترة الأخيرة أدى إلى نزوح أعداد كبيرة من المواطنين خاصة في وسط دارفور.. وتحدث البيان عن تدهور الأوضاع الأمنية، وفي ذلك الوقت كان مساعد رئيس الجمهورية د. “التجاني سيسي” يطوف بسياراته المدنية على تخوم إقليم دارفور متنقلاً من زالنجي إلى الجنينة بالسيارات، ومن الفاشر إلى طويلة وكتم وطرة بالبر، حتى دون حراسات من الجيش والشرطة والأمن، وتولت حراسة د. “التجاني سيسي” مليشياته التابعة لحزب التحرير والعدالة القومي.. وكان بيان الخامس عشر من أغسطس مقدمة تمهيدية لزيارة البعثة التفتيشية التي وصلت البلاد الأسبوع الماضي، وهي قد حددت مسبقاً أهدافها، وخارطة طريقها.. والدول الأفريقية لها مصلحة حقيقية في استدامة الأزمة في دارفور، أو على الأقل أن تبقى قوات (يوناميد) البالغ عددها نحو (21) ألف عسكري و(9) آلاف من الكوادر المدنية والإدارية والمستشارين، لما تمثله عائدات تلك القوى من دعم لاقتصاديات البلدان الأفريقية التي يطحنها البؤس والفقر.. وتعتمد بعض البلدان الأفريقية على المساعدات والهبات التي تقدم إليها باعتبارها دولاً رائدة في تقديم الجنود والضباط للعمل في أية قوات حفظ سلام دولية، وفي أي مكان بالعالم.. ولن تصغي تلك البلدان لأطروحات الحكومة السودانية من أجل (إخراج) قوات (يوناميد)، وقد كالت الدول الأفريقية المديح لدور قوات (يوناميد) في دارفور، في الوقت الذي تشهد فيه القوات على نفسها بالضعف والهوان، حينما تهاجمها قوات المتمردين ولا تستطيع صدها، حتى أصبحت هدفاً وغنيمة يتسابق إليها التمرد للظفر بالسلاح والغذاء.. وحينما تتعرض قوات (يوناميد) لهجمات المليشيات تتولى القوات الحكومية حمايتها من خطر التمرد والجنجويد المتربصين بها من أجل السلاح.
{ ما وراء القرار
قال الاتحاد الأفريقي في بيانه الصادر (الأربعاء) الماضي، في أديس أبابا، إن أطراف الأزمة السودانية مطالبون بوقف إطلاق النار في المنطقتين: النيل الأزرق وجنوب كردفان وإقليم دارفور، ودعا الحكومة والمعارضة إلى لقاء تحضيري بمقر الاتحاد الأفريقي في أديس أبابا برعاية الآلية الأفريقية، تمهيداً لبدء حوار وطني شامل وإيقاف الحرب، وأعرب المجلس عن قلقه الشديد إزاء الصراع الدائر والأزمة الإنسانية في دارفور والمنطقتين، والانتهاكات المستمرة لحقوق الإنسان فيها، داعياً لوجود ممرات آمنة لوصول المساعدات الإنسانية للمحتاجين واحترام حقوق الإنسان والقانون الإنساني، واتخاذ التدابير التي تهيئ لعودة النازحين طوعاً والمشردين واللاجئين.. وجاءت مطالب الاتحاد الأفريقي بوقف إطلاق النار بعد خمسة أيام فقط من إعلان الرئيس “عمر البشير” استعداد الحكومة لوقف إطلاق النار لمدة (60) يوماً لتهيئة المناخ للحوار الوطني.. بيد أن الرئيس قدم تفسيراً أمام مجلس الشورى لمعاني ومقاصد الحوار الوطني، التي لا تعني التفاوض مطلقاً.. وقالت الحكومة تعليقاً على بيان الاتحاد الأفريقي على لسان السفير “عمر حمزة”، في أديس أبابا، إن البيان لا جديد فيه سوى تبني وجهة نظر المعارضة في الدعوة للقاء تحضيري في أديس أبابا وإن حوى إشارات حديث المعارضة بالمطالبات الإنسانية. وأضاف السفير “عمر” إن الحكومة أبلغت الاتحاد الأفريقي بأن الحوار (سوداني- سوداني) وهو ذات الموقف الذي بلغه الرئيس لـ”ثامبو أمبيكي” رئيس الآلية الأفريقية رفيعة المستوى.. وكان الرئيس “البشير” قد رفض أي لقاء للحكومة بالمعارضة خارج السودان مهما كانت الأسباب، وتمسك بتنفيذ بنود (اتفاقية الدوحة) لحل قضية دارفور، ومرجعية اتفاق (السلام الشامل) 2005م، بروتوكول منطقتي النيل الأزرق وجنوب كردفان، كسقوفات نهائية، ولا مجال لفتح تفاوض جديد واتفاق آخر.. وهو الشيء الذي ترفضه بعض أطراف المعارضة التي اختارت الشماعة الخارجية بديلاً عن حوار الداخل الذي يواجه عثرات حقيقية، ولا تقدم الحكومة (مغريات) تجعله بديلاً للحوار الخارجي.. ولكن ثمة محفزات إقليمية جعلت الاتحاد الأفريقي يحاول (الضغط) على الخرطوم لحملها على الموافقة على حوار خارجي برعاية “أمبيكي” الذي فشل في تحقيق السلام بالمنطقتين، فأخذ على عاتقه (تجريب تحقيق السلام في كل السودان)، والمحفزات الإقليمية تتمثل في إذعان الرئيس الجنوب سوداني “سلفا كير ميارديت” للضغوط الأمريكية والغربية، وحمله قهراً على مصالحة فرقاء الجنوب وفق صيغة اتفاق تجعل الرئيس “سلفا كير” (يحكم الجنوب صورياً)، وتذهب ذات نسبة (نيفاشا) بين الحكومة السودانية، حينذاك، ومعارضيها الجنوبيين إلى د. “رياك مشار”. وإذعان “سلفا كير” للضغوط يغري القادة الأفارقة لمحاولة الضغط على الخرطوم، التي لن تصمد طويلاً في موقفها الرافض لبقاء قوات (يوناميد) على أراضيها، بل ربما أثمرت الضغوط عن حمل الحكومة على القبول بتمديد بقاء (يوناميد) طويلاً.. لكن الحكومة ارتكبت سلسلة من الأخطاء السياسية والدبلوماسية في التعامل مع الأزمة، التي أخذت تطل برأسها بين الحكومة والاتحاد الأفريقي. أول الأخطاء أن الحكومة تبدو وكأنها لا تعير نصائح الأفارقة أية التفاتة وتمضي في الإصغاء لنصائح العرب والدول الآسيوية.. هذا الانطباع سوءا أكان صحيحاً أم لا، فقد ترسخ في أذهان ومخيلة الدول الأفريقية، ثانياً بعد انفصال جنوب السودان انكفأ السودان على نفسه، وتثاقلت خطاه نحو الأفارقة رغم الالتزامات المالية التي ظل يوفي بها نحو الاتحاد الأفريقي، وبقية المنظمات الإقليمية.. ونجحت المعارضة المسلحة وأتباعها من أحزاب المعارضة في الاقتراب من الاتحاد الأفريقي أكثر، واستغلال موقف الحكومة الرافض للتفاوض مع حاملي السلاح خارج الحدود، وتصوير هذا الموقف كأن الخرطوم قد أدارت ظهرها لأفريقيا.. وفي كل يوم تتقارب المعارضة مع الأفارقة، وتتباعد المسافة بين الحكومة وتلك الدول.. والخطأ الثالث في التفاوض بشأن بقاء قوات (يوناميد) أو ذهابها.. هذه القضية يدور الحوار حولها في واشنطن وباريس ولندن وبروكسل، وفي كمبالا ونيروبي وجوهانسبرج.. ولأن قوات (يوناميد) جاءت بموجب قرار لمجلس الأمن الدولي فلن تخرج إلا بقرار من مجلس الأمن الدولي، والدول الأفريقية مستفيدة من وجود تلك القوات في دارفور، بينما (الممولون) الأوروبيون متضررون من الصرف الضخم على أكبر بعثة للأمم المتحدة في العالم حالياً، وينفق (الممولون) على هذه القوات نحو (21) مليار دولار في العام الواحد، وهو رقم لو تم توظيفه لإعمار دارفور لأصبحت ماليزيا القارة الأفريقية، ولكنه يذهب هدراً في الأنشطة الإدارية والمأكولات، والإنفاق على رحلات الطيران من الخرطوم إلى دارفور.. ومن واشنطن إلى أديس أبابا.
والخطأ الرابع للحكومة يتمثل في أنها تعلم مسبقاً نوايا بعثة مجلس الأمن والسلم الأفريقي، وعلى يقين أن الدبلوماسية التنزانية التي تترأس بعثة المفتشين الأفارقة تترصد الهفوات وتتحين السوانح لتصعيد مناخات الخلاف.. وقد تعمدت البعثة زيارة منطقة خور أبشي من وراء الدبلوماسية السودانية المرافقة للبعثة.. وتأخرت السيدة التنزانية ووفدها عن لقاء والي شمال دارفور المهندس “عبد الواحد يوسف” عمداً، في محاولة لإثارة الحكومة السودانية لتتخذ إجراءات بطرد البعثة أو تقيد حركتها، حتى تكتمل حيثيات القرار الذي صدر قبل مجيء البعثة إلى دارفور.. وساعدت الحكومة الاتحاد الأفريقي بقرار إيقاف تحليق طيران (يوناميد)، الذي حاولت الحكومة في البدء تحميله لحكومة شمال دارفور (المسكينة)، لكنها تراجعت عن ذلك، “ودقت صدرها” وتحملت مسؤوليتها إزاء تبعات ذلك القرار.. هذه الأخطاء شكلت عاملاً مساعداً للاتحاد الأفريقي ليمضي في تنفيذ مخطط (تنزل) عليه من خارج القارة.
{ صورة دارفور
إذا كانت الحكومة قد طالبت بمغادرة قوات (يوناميد)، وظلت تلح على ذلك مراراً، فهذا باعتبار أن دارفور الآن تسكنها الطمأنينة وقد تراجعت الحركات المتمردة، وعاد معظم الحركات المسلحة ووقع اتفاقيات مع الحكومة.. وبعد المعارك التي خاضتها قوات الدعم السريع مع مليشيات حركة العدل والمساواة في جنوب دارفور، انتهت تلك الحركة، وتراجعت حركة “مناوي” إلى داخل الأراضي الليبية، وشغلتها المغانم و”الدلالات”، حيث تعمل قوات “مناوي” الآن بالأجر عن “خليفة حفتر” رئيس الحكومة في مدينة طبرق، التي يسيطر عليها.. وكعادة “عبد الواحد محمد نور” تتخذ حركته منهجاً سياسياً أكثر منه عسكرياً، ويحتفظ فقط بوجود محدود في جبل مرة بعد أن انشقت عنه القوة الحقيقية، ممثلة في العميد “حمدين بشير”، والعميد “بشارة الطيب” الصحافي الذي هجر الحبر والورق وامتشق الكلاشنكوف والدوشكا.. حتى عاد في الشهور الماضية.. إزاء هذه التطورات تعيش دارفور الآن استقراراً حقيقياً لم يشهده الإقليم المنكوب منذ العام 2000م.
ولا يعكر صفو الأمن إلا أعمال النهب والشغب وفوضى المدن التي تقوم بها القوات الحليفة للحكومة أكثر من المتمردين حاملي السلاح.. وفوضى المليشيات هي مسؤولية الحكومة وتستطيع كبح جماحها وفرض الانضباط في المدن، كما حدث الآن في الفاشر ونيالا والجنينة.. لكن الحكومة فشلت في تسويق واقع دارفور الراهن في مخيلة الرأي العام، وفي أجهزة الإعلام.. وقد انصرف الكُتّاب والصحافيون عن زيارة دارفور، وانشغل  إعلام الحزب الحاكم بقسمة الغنائم وفتات المحلقيات الإعلامية، من يذهب لبون.. ومن تكون حظوظه الخليج، ولماذا لم يعين فلان؟ ومن وراء تعيين علان؟ وأين نصيبنا وكومنا من القسمة؟؟ ولم يمد الإعلام الحكومي ولا الحزبي، إن وجد، بصره نحو دارفور التي يسودها الأمن حالياً.. وتجوب السيارات ليلاً الفيافي بين المدن، وتخرج سيارات اللاندكروزر عصراً من الفاشر حتى تصل دار زغاوة في أقاصي شمال دارفور ولا يعترضها أحد.. لكن هناك جهات عديدة لها مصالح في تصوير دارفور بأنه (إقليم العذاب المضطرب)، للاستفادة من الشعار القديم (لا صوت يعلو فوق صوت المعركة)، والتكسب من هذا الواقع البائس على حساب الوطن.
{ صراع فرقاء الدوحة
في الوقت الذي تتمسك فيه الحكومة باتفاقية الدوحة وتعدّها الورقة الأخيرة بيدها، وترفض أية مفاوضات جديدة مهما تحدث الاتحاد الأفريقي عن مسارين لقضية جبال النوبة ودارفور.. في هذا الوقت يتصاعد دخان الخلاف بين د. “التجاني سيسي” و”بحر أبو قردة” اللذين جمعتهما اتفاقية الدوحة وفرقتهما مغانم السلطة إلى حزبين أقرب للواجهتين القبليتين.. وفي خطوة تنسجم مع ما يبحث عنه الاتحاد الأفريقي ومجلس الأمن، تهاجم قوة من أنصار حزب “أبو قردة” فندق (السلام روتانا) الذي كان المبعوث الأمريكي “بوث” يتجول بين ردهاته ويلتقي بعض الدبلوماسيين، يتسقط أخبار السودان.. في هذا الوقت تتصاعد الملاسنات ويتفرق جمع أهل دارفور الذين هرعوا للفندق من أجل حضور الاحتفال بإنجاز آخر لـ(وثيقة الدوحة).. لكن خاب الأمل وتفرق الجمع بعد أن هاجم أنصار “أبو قردة” مقر الاحتفال معترضين على تنفيذ الخطة الثانية من المشروعات البالغ عددها (626) مشروعاً تنموياً، والذين هتفوا في فندق (السلام روتانا) من خلفهم قيادات سياسية في الحزب المنشق عن د.”السيسي”، وكادت أن تصبح ساحة الفندق أمام عدسات وسائل الإعلام ساحة للعراك والقتال بين فرقاء دارفور، في مظهر ينم عن انحدار سحيق بلغته القوى السياسية في معالجة خلافاتها.. وبقراءة ما حدث في فندق (السلام روتانا)، فإنه لا يبدو  بعيداً عن ما حدث في دارفور من قبل بعثة مجلس السلم والأمن الأفريقي، وله صلة وثيقة بمخطط يُنفذ جزء منه داخلياً من خلال إجهاض اتفاقية الدوحة وإثارة الغبار حولها، وتصوير قادتها بالفاشلين والفاسدين، في الوقت الذي شهدت فيه دارفور قيام مشروعات حقيقية.. وقد اتخذ المؤتمر الوطني لنفسه موقفاً أقرب للمراقب لما يجري بين “السيسي” و”أبو قردة”، ولم تحدثه نفسه لحظة بقيادة مبادرة لفض الاشتباك والوصول لاتفاق.. وإذا كان الجهاز التنفيذي مشغولاً بصراعات القمح مع “أسامة داوود” والتجار المتهافتين على عائدات استيراد القمح، فإن خروج “علي عثمان محمد طه” ود. “نافع علي نافع” و”عثمان يوسف كبر” ود. “عبد الرحمن الخضر” و”أحمد إبراهيم الطاهر” كفيل بجعلهم يلعبون دور الحكماء الذين يطفئون النيران بالحكمة والموعظة.. و”أبو قردة” الذي خرج من صلب تنظيم الحركة الإسلامية، ومعه “تاج الدين نيام”، لا يعصيان أمراً لـ”الزبير أحمد الحسن” أو “علي عثمان”.. ود. “التجاني سيسي” الذي يستثمر فيه المؤتمر الوطني منذ سنوات، إذا خرج عن (اتفاقية الدوحة) ذهب الجمل بما حمل، وستبحث عنه الحكومة ولن تجده.. و”السيسي” يشعر بخيبة الأمل، ليس في رفاق الأمس من قادة حركة التحرير والعدالة، لكن فجيعته في الشريك الذي لم يحرك ساكناً ومليشيات “أبو قردة” تهاجم فعالية دولة وحكومة وليس حركة تحرير أو حزب.. والنتيجة الطبيعة لنهايات الخلاف، إذا تركت هكذا، إما خرج د.”التجاني” عن الاتفاقية وعاد للخارج مرة أخرى، وفي ذلك خسارة فادحة جداً، وإما خرج “أبو قردة” واتجه لصحراء دارفور، وفي ذلك أيضاً خسارة فادحة أيضاً.. وفي غياب الحكومة والرؤية الثاقبة تتعرض اتفاقية الدوحة لمحنة الانقسام ومؤامرة الداخل والخارج.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية