نقوش قصيرة
خرج رجل الأعمال أسامة داؤود عن صمته ولجأ للصحافة وأختار ثلاث منها لبث شكواه من وجع قرارات وزير المالية بدر الدين محمود الذي استجاب هو الآخر لنبض الرأي العام،وما تكتبه الصحافة بشأن احتكار أفراد بعينهم وشركات خاصة (محظية) بالرعاية الحكومية، ومنحها (عطية) استيراد القمح لتتضخم أرصدتها على حساب الغلابة والبسطاء الذين سحقهم البؤس وطحنتهم المطاحن الثلاث بغلاء الخبز .. أسامة داؤود ظل يرضع من ثدي الدولة التي منحته دون أي مبرر امتيازات دون غيره من رجال الأعمال.. وجعلته متحكماً في استيراد الدقيق وبسعر دولار أقل من سعر السوق.. وأسامة داؤود لا يتحدث مطلقاً لأسباب خاصة به ، شأن الكثير من رجال الأعمال الذين يتوارون عن الأنظار خوفاً من الرأي العام والأضواء، وحرصاً على أن تبقى صورتهم بعيداً عن (الميديا).. كان الاعتقاد السائد أن أسامة داؤود (محمي) من فوق.. ولن يستطيع وزير المالية إدخال يده في بيت الأفعى وإلا أخرجها مسرعاً.. لكن بدر الدين محمود فعلها المرة الأولى باقتحام حصون (المجنبين) وخوض معركة أورنيك (15) التي هي معركة مع الدولة العميقة (والسوبر حكومة) ، واستغل وزير المالية ثقة الرئيس فيه ودعمه له.. وانهال بعصاه على مراكز القوى (تكسيراً) وهدماً لصنم المصالح الخاصة.. وقبل أن ينجلي غبار معركة أورنيك (15).. دخل بدر الدين محمود بنفسه في وكر (الكلبة التي تحرس صغارها)، مما اضطرهم للخروج للعلن من الظلام واللجوء للصحافة لتبيض وجوه سودتها سنوات الاحتكار غير المبررة.. وتبدى عجز منطق أسامة داؤود في بؤس محاولة إقناع الرأي العام بأنه غير مستفيد مطلقاً من (الاحتكار) وأن الحكومة سمحت لغيره من الشركات باستيراد القمح.. وطفق الرجل يتحدث عن القمح المستورد مؤخراً بأنه الأسوأ والأغلى في تاريخ السودان، إذا كان القمح كذلك فنحن المستهلكون (موافقون وراضون) بقسمتنا من القمح.. أما التلويح برفع أسعار المكرونة والدقيق الذي تنتجه (سيقا) في الأيام القادمة وأن الشعب سيدفع الثمن!! فلماذا ترتفع أسعار المكرونة والشعيرية بعد قرارات فك الاحتكار مباشرة؟ .. ما علينا نأكل شعيرية من الإمارات وسكسكانية من السعودية ودقيق (فيني) من أستراليا.. وقديماً قيل في الأدب الشعبي (العصر بجيب الزيت) شكراً لوزير المالية بدر الدين محمود الذي كسب الشعب وخسر الرأسمالية (…)
قبل عامين من الآن جلست مع الأخ بحر إدريس أبو قردة وزير الصحة والأخوين علي أحمد قاش نائب رئيس المؤتمر الوطني بجنوب كردفان حينذاك والدكتور أحمد زكريا مدير مستشفى ابن سيناء حينذاك ونحن نبحث عن معدات طبية أشعة، وجهاز رسم القلب، وجهاز موجات صوتية، ومعمل، وقائمة طويلة من مطلوبات مستشفى مدينة الدبيبات، ذلك المستشفى الذي ساهم في بنائه بإخلاص وتفانٍ قيادات ورموز مثل الراحل مجذوب يوسف بابكر والراحل مختار حسن الأمين.. في تلك الجلسة أصدر بحر إدريس أبو قردة الذي يعتبر من أنجح وزراء الصحة الذين تعاقبوا على هذا الكرسي بشهادة د. الصادق الوكيل وزير الصحة الحالي بولاية القضارف، وأحد أقطاب الصراع القديم في الحقل الطبي.. وشهادة الوكيل شاهد عليها الأخ الأستاذ محمد عبد القادر رئيس تحرير الرأي العام، وسبب نجاح أبو قردة كما يقول الصادق لأنه جاء من خارج الوزارة وترك الشأن الفني للأطباء ، وهيأ لهم بيئة صالحة للعطاء.. المهم أبو قردة نظر في قائمة مطلوباتنا واستدعى على الفور شابة صغيرة اسمها سمية إدريس أكد.. في البدء ظننت أنها محاولة من الوزير لتسويف طلبنا والدليل على ذلك إحالته لشابة صغيرة.. ربما لا تستطيع فعل شيء وسط غابات رجال الصحة ومراكز نفوذها.. نظرت سمية إلى طلباتنا وحينها الوقت يمضي مسرعاً ولم يتبق من موعد زيارة النائب الأول لرئيس الجمهورية بكري حسن صالح للمنطقة إلا بضعة أيام وتفقد المستشفى من البرامج التي حرص عليها بكري شخصياً ووضعها في جدول الزيارة.. قالت الفتاة التي من أسم جدها (أكد) ولسانها الأعجمي أنها من شرق السودان.. كل مطلوبات المستشفى مسئوليتي من يتابع معي إجراءات نقل الأجهزة والمعدات إلى الدبيبات وإضافت د. سمية (سرائر) للمرضى من عندها.. اختارني الأخ علي دقاش ود. أحمد زكريا مندوباً عنهم.. وفي اليوم الثالث رن هاتفي وكان الطرف الآخر سمية إدريس تطلب مني الحضور للإمدادات الطبية لأن العربات جاهزة لترحيل المعدات.. دهشت لدقة تنفيذ الطبيبة سمية لتوجيهات الوزير وقلت لدكتور أحمد زكريا هذه طبيبة مختلفة عن غيرها.. فتاة متواضعة في ملبسها تحترم الإنسان ويحترمها كل من بوزارة الصحة.. ظلت صورتها في مخيلتي حتى الأسبوع الماضي حينما تصدرت عناوين الصحف تصريحات لوزيرة الدولة بالصحة سمية إدريس أكد .. ونشرت صورتها.. هي ذات الطبيبة الإنسانة.. قلت في نفسي تستحق هذه الفتاة أن تبلغ أعلى درجات السلم الوظيفي في بلادنا. فهي وجه يشرف الأطباء.. بالعطاء والكفاح وهي من جيل الوزراء الشباب الذين فشل أغلبهم في إثبات ذاته ولكن سمية أكد شمعة مضيئة تمثل جيل المستقبل (اللسه سنينو بعاد)!!
في كل جمعة كان عوض بابكر يرطب كبد مستمعي هنا أم درمان بروائع من أغنيات الحقيبة التي صاغها شعراء ورددها مغنيون نثروا الفرح في النفوس وجملوا دنياوات السودان بالطرب منهم الشاعر الراحل عوض جبريل الذي عاش بسيطاً رقيقاً حالماً سمحاً في سجاياه محباً للفقراء التقط أشعاره من أفواه عامة الناس وجعلها لسانهم الذي إليه يلحدون، كيف لا وعوض جبريل هو من كتب أشهر أغنية شعبية ذاع صيتها في البوادي والحضر
ما تهتموا للأيام ظروف بتعدي
طبيعة الدنيا زي الموج تجيب وتودي
تلك الكلمات هي التي دغدغت المشاعر وجعلت النويراوي في فنجاك يردد مع مزارع البصل في الجزيرة وصاحب دكان الملابس الجاهزة في سوق ليبيا مع ترباس
سبيل الزول عشان يفتح طريق يادوب
يكون زادوا البشيلو معاهو شوق مشبوب
عشان يلقى انتصارو
يا زمن محبوب
يضوق المرة ويتوشح
بصبر أيوب
وعوض جبريل صاغ شعراً أغنية عذبني التي يهيم فيها شوقاً لمحبوبته وعشقه وقد أهداها لبابكر ود السافل ليردد ومعه السودانيون في كل مكان
تعال يا مسافر أقيف إستنى
شوفا البان القدل بتنى
خدوده السادة بيها كتلنا
وأنا المشتاق بي الغرام جننا
عاش من أجل الناس .. وأم درمان الحياة.. وأم درمان الفن..
ورحل عوض جبريل عن الدنيا ولكن أغنياته ظلت خالدة يرددها الناس، وكما يقول مختار دفع الله فإن عوض جبريل تلقائي وتمتاز أغنياته بالبساطة ولكن تسندها موهبة ترتكز على العفوية والتلقائية الأخاذة.. وأغنيات عوض جبريل في حديقة الغناء السوداني تمثل اتكاءة فرح في زمان الفرح.. وعزاء لأيام حزننا هذه.. وهو من كتب الهوى العذري للمطرب عبد المنعم حسيب
كلما سألت عليك صدوني حراسك
ردوا الجواب كافي مع إني من ناسك
ردوا الجواب قالوا كم غيرك احتالوا
غير صدهم لا شيء مننا نالوا
يا قاسي يا قاسي هل يرضي ما قالوا
أم أنت ما سائل وما حرك إحساسك
رحم الله عوض جبريل في يوم حقيبة الفن وكل جمعة والجميع بخير.